من أن التهديد الإسلامى المستقبلى هو تهديد حقيقي، وأنه فى سياق امتدادات المستقبل يمكن أن تقع أسلحة الدمار الشامل فى يد جماعات صغيرة، تستطيع من خلالها أن تحقق دمارًا ضخمًا للقوى الكبرى، ويقرر أيضًا أن المجتمعات الإسلامية فى معظمها مجتمعات متأخرة، لا تستمتع بحياة سياسية سعيدة، وتقبع تحت أنظمة حكم استبدادية، وليست لديهم ثمة فرص للمشاركة السياسية، ولا مستوى للتطور التكنولوجي، ويضيف أن اتجاهات الهجرة الدولية تعكس رغبة مجتمعات الدول الإسلامية، فى الانتقال إلى الدول الليبرالية الديمقراطية والعيش فيها، فالنظام الليبرالى المتسامح هو النظام الأمثل؛ لذا يجب فرضه على هذه الشعوب. صحيح أن تشخيص فوكوياما المتسم بوثوقية مطلقة، هو محض مطية تبريرية لتوجهاته التى تبدت فى غايته القصدية، بفرض النظام الأمريكى على الشعوب الإسلامية، بوصف الديمقراطية الليبرالية- كتطور سياسي- تعد نهاية التاريخ، وصحيح كذلك أنه فى مدار احتكار الأمركة للتاريخ والمستقبل والحقيقة، دعا وزير الخارجية الأمريكية كولن باول فى خطابه عام 2002، إلى تطوير الواقع الإسلامى ودمقرطته وفقًا للنسق المعرفى الأمريكي؛ إذ اخترعت الأمركة ازدواجًا تجانسيًا بين إرادة السيطرة، وإرادة المعرفة لفرض هيمنتها، وصحيح أيضًا أنه إذا كان تعريف الشمولية بأنها (النفى الأكثر إطلاقية للحرية)، فإن الأمركة بصياغتها الذهن الجمعى للشعوب، تعد هى أكبر مشروع معاصر للشمولية، لاستهدافها إعادة تشكيل العالم وفق نسقها.
اخترقت وزارة الخارجية الأمريكية تسويرات أخص خصوصيات شعوب البلاد الإسلامية، حين شكلت لجنة (تطوير الخطاب الدينى فى الدول العربية والإسلامية)، التى أعدت ورقة عمل تطرح كيفية توجيه خطاب الدين الإسلامى للعقود المقبلة، وكأن الدول الإسلامية قد تحولت إلى ولايات منزوعة الاختصاص، وأن هيمنة الأمركة صارت مفروضة كخيار وحيد. لقد صدرت هذه الوثيقة عام 2002 بعنوان (تطوير الخطاب الديني) فى لغة سياسية مباشرة، واستراتيجية شمولية، تدفع صوب التدخل الأمريكى وتعزيز نفوذه وهيمنته، انطلاقًا من اعتباره الإسلام مرادفًا للإرهاب؛ إذ يؤكد فوكوياما أن بحر الفاشية الإسلامية الذى يسبح فيه الإرهابيون يشكل- من جوانب عدة- تحديًا أيديولوجيًا أشد من ذلك الذى شكلته الشيوعية؛ لذا راحت الإدارة الأمريكية تفرض على الإسلام ما برمجوه له من خارجه، بطرح ترسيمات خارجية معممة بطابعها الإرغامى المتحكم، كما جاء بالوثيقة التى تتبدى بيانًا مشروطًا بضرورة الارتباط بالمطروح والمفروض تنفيذه، بوصفه تطويرًا فاعلاً للخطاب الدينى الإسلامي، والحق أن الوثيقة محض إجراءات وآليات بالمنع والتحويل والإقصاء والرقابة الأمنية، ولا تعنى تطويرًا للخطاب الدينى وتجديدًا له، وإنما تستهدف- تحديدًا- إلغاء مظاهر الوجود الإسلامى فى الحياة الاجتماعية، فقد أكدت الوثيقة ضرورة اختزال الاهتمام بالجانب الدينى وتغلغله، فى ممارسات الحياة الاجتماعية العامة لدى المسلمين، على أن يتبدى الدور الدينى بوصفه معيارًا ثانويًا فى أساليب الحياة الاجتماعية، كما تحدد الوثيقة إحدى الوسائل الأساسية لاختزال الجانب الديني، وهو ما يتأتى عبر إغراق الشعوب العربية والإسلامية بأنماط مختلفة من التقدم التقنى الغربى المعاصر. ولأن الوثيقة ترى المسجد أداة للتحريض وبث الكراهية فى مواجهة الآخرين، لذا راحت تستدعى للمسجد دورًا جديدًا بحيث لا يقتصر على الجوانب الدينية، وذلك بتحويله إلى مؤسسة اجتماعية تربوية، فيتضمن حدائق للأطفال والسيدات، وتتولى الإشراف على إدارته شخصية عامة غير دينية، كما حرصت الوثيقة على ضرورة وضع رجال الدين المسئولين عن الدعوة، تحت رقابة أجهزة الدولة، ضمانًا لقيامهم بالتوجيه الدينى المناسب الذى يقضى على نزعات التطرف، وطالبت الوثيقة أيضًا بإلغاء مادة التربية الدينية الإسلامية. ترى هل تعد تلك وثيقة لتطوير الخطاب الدينى للإسلام، أم وثيقة تناهض الإسلام تطرحها سلطة الأمركة لفرض الهيمنة على المسلمين، باستهداف إلغاء مظاهر الوجود الإسلامى فى الحياة الاجتماعية، وكأن الإسلام أيديولوجيا تسلطية، وليس دينًا توحيديًا يحكمه خطاب إلهى مقدس، ويقوم على الإيمان واليقينية، ويمتد من الضمير الفردى لمعتنقيه إلى وجودهم الاجتماعي، متجليًا فى سلوكهم الحياتي، داعمًا لفضائله وقيمه بينهم.
صحيح أن فوكوياما أكد على الإدارة الأمريكية ممارسة إخضاع شعوب الشرق الأوسط والمسلمين بالقوة، وفرض نمط المجتمع الأمريكى عليهم، وصحيح أيضًا أن صاحب فكرة صراع الحضارات، صموئيل هنتنجتون قرر أن المشكلة التى يواجهها الغرب ليس الأصولية الإسلامية؛ بل الإسلام، بصفته حضارة مختلفة يعتقد ممثلوها أن ثقافتهم هى الاسمى لكنهم مهووسون بدونية وضعهم. والمشكلة التى يواجهها الإسلام هو الغرب، بصفته حضارة مختلفة يعتقد ممثلوها أن ثقافتهم كونية، وتدفعهم قوتهم إلى نشرها، وهذه العناصر هى التى تغذى الصراع بين الإسلام والغرب. وصحيح كذلك أن هنرى كسينجر رصد الأمر بمنظور آخر؛ إذ يرى أن ما تحتاج إليه الولايات المتحدة هو تهديد واضح ومعروف، وأيديولوجية معادية، إذ بزوال الخطر السوفيتي، فإن المهمة الآن تتطلب إحياء التهديد، وإعادة خلقه بالقوة، وصحيح أيضًا أن كونداليزاريس، وزيرة الخارجية، قد اعترفت أن الإدارة الأمريكية- بسبب استخفافها بدور الدين والثقافة الدينية فى الشئون الدولية- وقد وقعت بمئات الأخطاء التكتيكية. والصحيح أنه قد فشلت محاولات أمركة الخطاب الدينى الإسلامي، فبدأت الإدارة الأمريكية عام 2005 الاتصالات مع الإسلاميين، وطرحت ما سمته (أجندة الحرية فى الشرق الأوسط)، ثم فى مايو 2010 تم إعلان وثيقة الأمن الأمريكى الجديدة، حيث لم يستخدم الرئيس أوباما فيها عبارات استفزازية مثل التطرف الإسلامي، استحضارًا لبراءة الولايات المتحدة تجاه الاعتقاد السائد فى العالم الإسلامى أن أمريكا فى حالة حرب مع الإسلام، لكن لم يمض عام حتى انطلقت الثورات فى بلدان الشرق الأوسط، وما أسرع ما تحولت من ثورات سلمية إلى ثورات مسلحة، فظهرت ميليشيات مقاتلة، واستخدمت الثورات كشرط توليدى لصراعات تنظيمات وجماعات عرقية، وطائفية، ومذهبية عابرة للمجتمعات، تم تثويرها كشرط لاحتراب المسلمين ضد المسلمين، وظهر تنظيم داعش، وصعوده بقوة فاعلة إقليميًا، إذ استطاع السيطرة على مناطق شاسعة فى زمن خاطف أثار التساؤلات، فى حين طالت الاستغاثة طلبًا للمساندة لمواجهة ممارسات داعش، وأخيرًا قبلت أمريكا التدخل، معلنة أن الحرب ستستغرق ثلاث سنوات، مع حظر استخدام القوات البرية الأمريكية. استولد التدخل الأمريكى المتأخر لضرب داعش وشروطه ونتائجه، متاهة مريبة؛ إذ ظهر أن داعش خارج اقتدار القوة القوية الأمريكية، التى لم يتبد لها إنجاز يذكر فى معاركها معه. لكن تمت الإجابة عن تلك التساؤلات المريبة، عندما تم رفع الحظر عن وثائق سرية، كشفت عن الدور الخفى للرئيس أوباما فى تأسيس داعش وتصاعد نفوذه، وتعرت حقيقة الحرب الأمريكية على داعش بأنها محض شعوذة زائفة؛ لذا يلح السؤال الساخن: لماذا أصرت موسكو على مواجهة داعش فى سوريا؟ هل استدراكًا بالتصدى لخطة الخداع الأمريكى بدفع داعش إلى دخول دمشق، كى تبرر تدخلها المباشر لحماية سوريا؟