رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

كيف يتعامل الغرب مع الهجرة؟

يثير موقف الغرب من موجات الهجرة حيرة وارتباكاً كبيراً، فتارة تأتينا من الغرب صيحات تحذيرية وتهديد ووعيد، وتارة أخرى تأتينا تصريحات إنسانية عاطفية تكشف عن استعدادهم لتضميد جراح المهاجرين ومساعدتهم.

الحيرة هنا لا تخص المستمعين لهذه التصريحات وحدهم، ولكنها موجودة فى المنبع. فكلنا يعرف حجم التفاوت الهائل فى الدخول بين دول الشمال والجنوب. وهذا التفاوت ليس بسبب نشاط أهل الشمال وكسل أهل الجنوب، ولكنها سياسات اقتصادية تنظم عمليات النهب المستمر لدول الجنوب، وتدخل سياسى سافر من أنظمة الحكم فى الدول الرأسمالية الكبرى للإبقاء على حكام تابعين لهم فى دول الجنوب. وتستخدم النظم الغربية كل الأسلحة ووسائل الضغط للإبقاء على هذا الوضع.

فهناك بالفعل مؤامرات تحاك لزعزعة الاستقرار فى مناطق بعينها. ولكن المتآمرين لا يستطيعون التحكم فى العواقب التى تؤدى إليها مؤامراتهم. وكلنا يعرف دعمهم المبكر لتيارات الإسلام السياسى التى يتلخص مشروعها السياسى كله فى حرمان الشعوب من حرياتها والاكتفاء اقتصادياً بالقيام بدور الوكيل للشركات العالمية الكبرى. لكنها لم تحسب أن هذا الدعم سوف يؤدى إلى تصدير تنظيم القاعدة لنشاطه خارج أفغانستان ونشأة الجهادية السلفية وداعش وأخواتها. ولا أظن أن نظم الحكم الغربية مبتهجة لهذا المشهد، أو أنها كانت تتوقعه. فيوجد لدى جماعات داعش المسلحة على سبيل المثال أكثر من 600 شاب فرنسى ولا تدرى الحكومة ماذا تفعل بهم عندما يعودون. ونفس الورطة موجودة لدى دول أخرى مثل انجلترا والمانيا.

موجات الهجرة المتدفقة مثال آخر على النتائج غير المتوقعة للسياسة الخارجية الغربية والتى لم تحسب لها النظم الغربية حسابا. فأن يهرب الناس بأطفالهم من الجحيم بطرق شتى، برا وبحرا وجواً، باحثين عن أراض آمنة، فهو ما يبدو أمراً مفاجئا لمتخذى القرار فى الدول الغربية. ولهذا غلبت في البداية نغمة التحذير والتهديد الموجهة للذين يمر بخاطرهم التفكير فى الهجرة. ولكن ذلك لم يكن كافياً للردع، فقد تدفق المهاجرون بالآلاف ليتجمعوا على حدود الدول الغربية وعندها حملت التصريحات نبرة الرحمة والإحسان والتعاطف.

اتهم البعض الغرب بالنفاق، لأنه هو الذى تآمر، ودعّم المجموعات المتحاربة بالسلاح، ثم بتكلفة رخيصة يريد أن يظهر فى ثوب إنسانى نبيل. واعتقد آخرون أن مأساة هؤلاء المهاجرين سببها نظم الحكم الاستبدادية والجماعات السياسية فى بلادهم التى لم تتعود على الأسلوب الديمقراطى السلمى فى إدارة الصراع. وطبقاً لهذه الرؤية يكون الغرب بالفعل نبيلاً، يحمل على عاتقه معالجة أخطاء الآخرين. 

هاتان النظرتان تستبعدان من حسابهما عنصرا مهما ومؤثرا فى المشهد السياسى وهو الرأى العام. وهذا الرأى العام ليس موجهاً للدفاع عن مصلحة الأنظمة، بل إنه رغم أساليب وآليات التلاعب الإعلامى له بعض الاستقلالية. ويكفى لنا أن نتذكر المشهد حينما اتخذ تونى بلير قراراً بالتدخل العسكرى إلى جانب أمريكا في العراق، ووافق مجلس العموم على هذا التدخل، خرجت أكبر مظاهرة فى العالم ضد الحرب فى ميادين لندن.

يتشكل الرأى العام عادة من عنصرين، أحدهما ثابت والآخر متغير. أما الثابت فهو مجموعة من القيم التى ينحاز لها الفرد ويعلى دائماً من شأنها، مثل العدالة والمساواة واحترام حقوق الآخرين وغيرها، أما العنصر المتغير فهو يتعلق بالحدث الذى يتعين إبداء الرأى فيه، وهنا تتدخل أمور ظرفية مثل المصلحة والتوجيه الإعلامى والظروف الدولية، إلخ. وفى الغرب يسير الرأى العام فى اتجاهين، الأول محدود، يتحدث دائماً بلغة القوة والاستعلاء وهو فى الغالب اتجاه اليمين المتطرف، وهو ذو شعبية محدودة، أما الآخر فهو الغالب لأنه يجمع بين الليبراليين والاشتراكيين، وهو يتبنى مقولات معاداة العنصرية والنزعة الإنسانية. لا يعنى ذلك، أن هذا الاتجاه هو الذى يحدد مسلك الحكومات الغربية، ولكن فى مجتمع ديمقراطى تسعى فيه الحكومات لأن تكون محل رضا وقبول من جانب المواطنين فإنها تعمل له حسابا كبيرا. 

انطلاقاً من هذه النظرة للواقع السياسى الغربى يمكن لنا أن نفسر مظاهر الحيرة والارتباك فى التعامل مع موضوع الهجرة. فاللهجة التحذيرية والتهديدية الرافضة لاستقبال المهاجرين تنطق بلسان نظام الحكم. وحين وفد المهاجرون بالفعل، ووقفوا على الحدود وبدا المشهد الذى تنقله وسائل الإعلام مؤثراً بالفعل: آباء وأمهات تركوا بيوتهم وأعمالهم لا يحملون سوى أطفالهم، يهربون بهم من الجحيم. تعاطف معهم الرأى العام الغربى، وآصبح يشكل ضغطاً على الحكومات، ولم تكن التصريحات الكريمة والمتعاطفة إلا استجابة من الحكومات لهذا الضغط، وتحسينا لصورتها أمام مواطنيها.

وهذا التراوح بين الرفض والقبول فيما يخص موضوع الهجرة هو ملمح يميز السياسة الغربية تجاه موضوع الهجرة منذ عدة عقود. الرئيس الفرنسى فرنسوا ميتران حينما تم انتخابه كأول رئيس اشتراكى قادم من صفوف اليسار، اتخذ، لكى يؤكد انتماءه لقيم اليسار، قراراً بتحويل جميع المهاجرين السريين فى فرنسا إلى مهاجرين شرعيين يحملون إقامة قانونية. ولكنه إزاء مطالبة الرأى العام بضرورة فتح أبواب فرنسا لاستقبال ضحايا المجاعات والحروب الأهلية، قال قولته الشهيرة: إن فرنسا لا تستطيع أن تستقبل كل بؤس العالم.

 وسوف يظل هذا التراوح قائماً، وسوف تظل موجات الهجرة تتدفق، ولن يكون هناك حل جذري، إلا بإعادة النظر فى الطريقة التى يسير بها اقتصاد العالم، وفى المنطق الذى يحكم العلاقات السياسية الدولية.


لمزيد من مقالات د.انور مغيث

رابط دائم: