ومن المفهوم أن تلتفت الدولة المصرية للثقافة، وأن تهتم بها وترعاها. لأن الثقافة المصرية تراث عريق حافل، وثروة قومية تنمو كل يوم ولا تنفد، وتعيش ولا تهرم، وتعطى أكثر مما تأخذ، قارنوا بين القليل الذى أنفقناه على المتاحف والمسارح والمكتبات وبين الكثير الذى حصلنا عليه من السياح الأجانب المفتونين بحضارتنا القديمة، ومن الجمهور العربى العريض الذى يسمع أغانينا ويشاهد أفلامنا، ويقرأ كتبنا وصحفنا من المحيط إلى الخليج. هذه الأرباح الطائلة المادية والمعنوية التى تدرها الثقافة المصرية يذهب النصيب الأكبر منها للدولة، فمن الطبيعى والمنطقى أن تهتم الدولة بالثقافة وأن تدعمها وترعاها
هذه الرعاية ليست بنت اليوم. وإنما بدأت مع بداية النهضة الحديثة، وبالتحديد منذ أنشىء المتحف المصرى فى أيام الخديو إسماعيل ومن بعده دار الآثار العربية التى أنشئت فى العام الذى بنيت فيه دار الأوبرا، وقبل ذلك بعام أنشىء مسرح الكوميدى فى الأزبكية ودار الكتب التى أنشئت فى العام التالى، إلى إن نصل الى المسرح القومى أو الفرقة القومية التى أنشئت على غرار الكوميدى فرانسيز فى ثلاثينيات القرن العشرين.
لكن الثقافة المصرية لم تكن متاحة لكل المصريين. ظلت متعة كمالية مقصورة على جمهور محدود منهم حتى استولى ضباط يوليو على السلطة، وقرروا أن يبقوا فيها وأن يضعوا أيديهم على النشاط الوطنى فى شتى المجالات، فى السياسة، و الاقتصاد، وفى الإعلام والثقافة، وهنا كان لابد أن يصطدموا بالمثقفين وخاصة الليبراليين واليساريين الذىن ظلوا يطالبون بالديمقراطية ويدافعون عن حقهم وحق المصريين جميعا فى تشكيل الأحزاب وإصدار الصحف.
وهنا فكرت السلطة فى إنشاء مؤسسة ثقافية تمكنها من توجيه الإنتاج الثقافى وإتاحته للجمهور الواسع، وعدم السماح لخصومها الليبراليين واليساريين بأن ينفردوا بالنشاط أو ينفردوا بالجمهور.
هكذا أنشىء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية فى أواسط الخمسينيات فى القرن الماضى، ثم أنشئت بعده وزارة الثقافة، وهكذا نشأت المشكلة المعقدة التى واجهتها الثقافة المصرية طوال العقود الستة الماضية وتتلخص كما قلت فى أن الدولة التى قررت أن تهتم بالثقافة وأن ترعاها هى الدولة التى حاصرت المثقفين وضيقت عليهم الخناق.
ولا جدال فى أن الثقافة المصرية استفادت من الوزارة التى أنشئت لترعاها وتحررها من سلطة السوق، ومن قانون العرض والطلب، وتضمن لكل مواطن يطلبها نصيبه العادل فيها أيا كان موقعة على خريطة الوطن وخريطة المجتمع. ولكى تتحقق هذه الأهداف أنشئت أكاديمية الفنون وقصور الثقافة. الأكاديمية لتمصير الفنون الرفيعة التى لم نكن نعرفها إلا من بعيد وتوطينها فى بلادنا، وقصور الثقافة لتمكين البسطاء من مشاركة غيرهم فى التعرف على هذه الفنون وتذوقها، والحصول علي نصيبهم فيها. والفضل الأكبر فى فى هذا يعود للوزير المؤسس ثروت عكاشة أول من تولي هذه الوزارة، وأفضل من تولاها حتى الآن. لأنه لم يكن مجرد وزير، وإنما كان وزيرا مثقفا ثقافة رفيعة شاملة.
فهو يقرأ ويكتب، ويسمع ويشاهد، ويفكر ويناقش، ويقرر ويختار.
غير أن ثروت عكاشة لم يكن يستطيع أن يحقق النجاح الذى حققه إلا لأن الثقافة المصرية كانت قد بلغت خلال النصف الأول من القرن العشرين درجة عالية من الازدهار والتفتح والتنوع. فهى تحيى التراث العربى وتنشره وتراجعه وتنقده. وهي تتصل بالثقافات الأوروبية الحديثة وتحاورها بلغاتها ومناهجها. وقد عادت الفصحى للحياة من جديد فى المدرسة والجامعة، وفى الصحافة والإذاعة، وفى المسرح والأغنية، وفى دواوين الحكومة والبرلمان.
والشعراء المصريون الذين تربعوا على عرش القصيدة العربية التقليدية يواصلون ريادتهم ويجددون هذه القصيدة ويضيفون إليها ماأضافه الرومانتيكيون فى الثلاثينيات والأربعينيات، ويشاركون غيرهم من الشعراء العرب فى حركة الشعر الجديد التى فتحت القصيدة العربية على شعر العصور الحديثة ومنحتها لغة جديدة، وموسيقى جديدة، وعوالم جديدة.
والرواية العربية التى بدأت حياتها فى أوائل القرن العشرين تصل فى منتصفه إلى تمام نضجها وتحتل هى والقصة القصيرة مكانا متقدما فى الأدب المصرى الحديث.
والمسرح يتمصر ويتنوع ويستكمل ثقافته ويتحول من مجرد عرض ليصبح نصا أدبياً رفيعاً. ولا أظن أنى فى حاجة للحديث عما حققته الصحافة والسينما والأغنية المصرية خلال النصف الأول من القرن الماضى، سواء فى القيمة الفنية أو فى الانتشار الجماهيرى.
إلى أن ثروت عكاشة وجد من المثقفين المصريين الكبار خاصة أمثال طه حسين، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وزكى نجيب محمود، ولويس عوض، وأبو بكر خيرت من يستجيب له ويتعاون معه.
هذه الأسماء الكبيرة لم تر بأساً فى أن تتعاون مع سلطة يوليو التى حققت شعبية واسعة بعد المعارك التى خاضتها مع أعمدة النظام القديم فى الداخل ومع المحتلين الانجليز والقوى الاستعمارية الأخرى فى المنطقة. وقد أرضى هؤلاء المثقفين ألا تنسبهم السلطة للنظام القديم وألا تعتبرهم ضمن أعدائها، وأن تتعامل معهم بتقدير واحترام، وتتجاهل مايمكن أن يكون لبعضهم من تحفظات أو آراء سلبية تجاهها، طالما حرصوا من ناحيتهم على عدم الاعلان عن هذه التحفظات والآراء.
وهكذا أصبحت وزارة الثقافة حقيقة واقعة توجه النشاط الثقافى وتسيطر عليه، خاصة بعد أن قررت السلطة تأميم المؤسسات والمصالح الخاصة، ومن ضمنها المؤسسات الثقافية : دور النشر، ودور الصحف، والمسارح الخاصة، واستديوهات السينما، ودور العرض، هنا صارت الثقافة المصرية كلها نشاطاً حكومياً يتحكم فيه الوزراء الذين لم يكونوا كلهم على شاكلة ثروت عكاشة. ونحن نعرف أن سياسات عبد القادر حاتم الذى تولى الوزارة بعد ثروت عكاشة وجمع بينها وبين وزارة الارشاد وجدت معارضة واسعة لأن الثقافة فى أيام حاتم اختلطت بالدعاية والاعلام.
ونعرف أن المثقفين الكبار الذين كانوا فى الخمسينيات والستينيات الأولى لايزالون يتمتعون بالنشاط لم يعودوا كذلك فى السنوات التالية. ونعرف فى المقابل أن موقف السلطة من التيارات الليبرالية واليسارية لم يتغير بل لقد اشتدت الضربات التى وجهتها السلطة لهذه التيارات فى السنوات التى تلت إنشاء الوزارة وأصبحت حربا شعواء استمرت عدة سنوات. ومع أن الوضع تحسن فى أواسط الستينيات بين اليسار والسلطة فقد بقيت المشكلة المتمثلة فى المفارقة التى أشرت إليها من قبل قائمة : لدينا وزارة ثقافة تقوم بنشر الكتب وعرض المسرحيات وإقامة المعارض وإدارة المكتبات والمتاحف والقصور. لكن الثقافة المصرية التى كانت مزدهرة قبل إنشاء الوزارة لم تعد مزدهرة بعد إنشائها. الوزارة حاضرة، لكن المثقفين المصريين ليسوا حاضرين. لقد حل الموظف محل المثقف. وقد آن أن نصحح هذا الوضع المختل !