قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، وفى ساحة البيت الحرام، وحول كعبته المُشرفة، وبين لبنات المجتمع الإسلامى الأول، يرقب الصحابى الجليل عبد الله بن عمر، حركة خاتم الأنبياء و المرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان المصطفى يطوف بالكعبة، متعالقاً قلبه بمهابة البناء النابع من جلال صاحبه المتجلى فوق كل جَلِيّ، وحسبما رصد ابن عمر فى الحديث الذى رواه ابن ماجة، دار حديث بين نبى الإنسانية و بين الكعبة، قال لها بلسان المحب المتأمل، (ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك)، خرجت الكلمات من فم المصطفى الشريف، لتفتح فى مداها علاقة تتجاوز حد مخاطبة الجماد، إلى آفاق الغد القادم مؤذناً باتساع رقعة الإسلام وأهله، وكأن الرسول محمد صلوات الله عليه، رأى عبر قرونٍ قادمة، الناس يدخلون فى دين الله أفواجاً، ليتجاوز عدد الحجيج العدد البسيط الذى كان نواة الحج الأعظم فى عصر النبوة، ويصير العشرة آلاف حاج، مليوناً ثم اثنين و ثلاثة ملايين روح تؤدى نفس الشعائر، وتلبى ذات التلبية رغم اختلاف اللغات (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)، هذ الكشف غير مسار حديث النبوة للكعبة من مقام المحبة إلى مقام التشريع، ليُرسى رسول الإنسانية الأصل الذى عليه بُنيت الرسالات السماوية، وهو الإيمان الذى يورث الأمان ويحقق السلام والتعايش بين بنى الإنسان، فيقول عليه السلام (والذى نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك)، يقصد أن حرمة النفس المؤمنة عموماً أشد تقديسا عند الله من أول بيوته على الأرض الكعبة، فلا تَعدل شعيرة -مهما بلغت قدسيتها- قدسية النفس، وبتجاوز رسول الرحمات ساحة الشعائر فى حديثه للكعبة، إلى ساحات الحياة والتعاملات، ويختار عليه السلام نماذج للحقوق الطبيعية للإنسان التى يكفلها الإسلام، على المستوى المادى قائلاً (ماله ودمه)، ثم يؤكد حق -حال إرسائه- يمثل مُحدداً للسلام فى المجتمع، فيقول ( وأن يظن به إلا خيرًا).
هكذا كان الكشف للرسول الذى اعتبر أن رسالته الأساسية للإنسانية هى الرحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، (107 الأنبياء)، والمثير للدهشة أن حديثاً كهذا الذى بين يدى المقال، عمد بعض العاملين إلى تضعيفه لجعله غير صحيح، وبالتالى لايصح الأخذ به، وكأن الصورة التى يجب أن يتم تصديرها عن الإسلام، هى تلك التى رسمتها قسوة واقع النشأة بيئة وقلوباً، والانتصار لغلظة البداوة فى مواجهة (رحمة النبوة) .
لكن حديث ابن عمر الراصد لحوار النبى والكعبة، تحول من مجرد حديث يثير حوله البعض لغطاً، إلى أصل ينبغى البناء عليه لإنتاج فقه جديد، يُعبر حقيقة عن روح الإسلام فى القرن الحادى والعشرين من ميلاد المسيح، والقرن الخامس عشر من هجرة الرسول، فلا يمكن أن يتخيل عاقل أن فقيهاً نبياً مصلحاً مثل محمد عليه السلام، سيدير معسكر الحج الذى يضم ثلاثة ملايين مسلم، بذات الفقه الذى أدار به معسكره المكون من عشرة آلاف مسلم؟!.
مما لاشك فيه أن هناك أزمة فى الاجتهاد صنعتها عقول تقاومه، مقررة التعامل مع الدين بنفى الزمن والتطور، إنه واقع ينبغى أن نعترف به كأمة مأزومة، واقع صنعه علماء الإسلام فى كل العالم الإسلامي، حينما انغلقوا على أزمات أوطانهم الداخلية، أو تماهوا مع صراعات سياسية، أو أُغرقوا فى شواغل حياتية، وحينما اعتبروا أن سلطانهم الدينى محكوم بإيقاع وظيفي، ومحدد بقطاعات جغرافية، وحينما نَصَبَ بعضهم نفسه حارساً للإجماع القديم الذى هو اجتهاد قديم، هذه المكونات وغيرها أبت الخطوب على مدار السنوات الأخيرة إلا أن تواجهها بتقصيرها دماً يُعلق فى رقاب علماء الأمة، تلك الأمة التى قال عنها ربها فى كتابة (ُأنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (110 آل عمران)
فعوام خير أمة ساقهم جمود الاجتهاد إلى العشوائية، ودفعهم إلى حتفهم، وأخرج تجمعهم الأهم عالمياً فى صورة بدائية، أحالتهم إلى قطعان من الهمج يدهس بعضهم بعضاً سعياً لـ (رجم إبليس)!
هذا المشهد الدامى الذى كان قبل أيام بمنى و أدى إلى وفاة عدد يقارب الـ 800، واستقبله علماء الإسلام فى العالم الإسلامى بمزيد من الأسى والأحزن نعياً للشهداء، لم يكن الأول الذى يستقبلونه بذات الأسى و الحزن، بل سبقه آخر فى يناير 2006 وأدى إلى وفاة 364 حاجا وكان السبب التدافع فى مني! وقبله فى فبراير 2004 توفى 251 حاجا فى أثناء رمى الجمرات بمنى . وتكرر ذات الأمر قبلها بسنوات ست حين توفى 118 حاجا فى ابريل 1998م . وبذات الكيفية فى مايو 1994 توفى 270 شخصا، هذا يعنى أنه على مدى عقدين من الزمن استقبل علماء العالم الإسلامى خبر خمس حوادث أدت إلى وفاة قرابة 2000 نفس من تلك التى قطع الرسول بكون حرمتها أكبر من حرمة الكعبة، استقبل العلماء الأخبار بمزيد من الأسى و الحزن دون أن يكون هذا المزيد قادراً على تحريك ضمائر القائمين على أمر الاجتهاد فى العالم الإسلامى للقيام بدورهم الأصيل فى إعادة بناء وتنظيم العقلية الإسلامية لتصبح أكثر قدرة على تطوير أدواتها فى التعايش، واحتراماً للمقدس الأكبر فى الحياة (النفس البشرية).
إن حادثة منى الأخيرة، ستظل دماؤها تطارد بمزيد من الأسى والحزن أمة هان دينها على علمائها حتى جمدوه، وهان على أهل الاجتهاد فيها حتى قولبوه، وهان على مؤسسات العلم الإسلامى حتى امتهنوه توظيفاً، واستثمره غيرهم إرهاباً وعنفاً، وصار لزاماً على الجميع (حكومات ـ مؤسسات علوم إسلامية ـ أصحاب رأى) أن يبادروا إلى ساحات الاجتهاد استناداً على القاعدة الأسمى فى الرسالة الإسلامية وهى (إعمار الأرض)، ولا إعمار للأرض إلا بدين يحفظ للإنسان حياته، ولا حياة للإنسانية كلها طالما أن فقه الواقع يدير معسكراً تعداده 3 ملايين، بنفس الفقه الذى أدار عشرة آلاف.