ينتمى الدين (تنزيلا من الله، ثم تأويلا من الإنسان يتحول عبره هذا الدين إلى أنظمة ثقافية وحضارية تمثل تراثاً راسخاً يحدد طرائق التفكير والسلوك للجماعة التى يسود فى نطاقها؛ أى يتحول ـ فى كلمة واحدة ـ إلى خطاب) إلى سياق مغاير بالكلية لذلك الذى ينتمى إليه مفهوم المواطنة بالمعنى الذى استقر له فى العصر الحديث.
فإذ يحيل مفهوم «المواطنة» إلى التسوية الكاملة بين الأفراد، وتكافؤ مراكزهم القانونية والحقوقية فى المجال العام؛ وبما يعنيه ذلك من إسقاط كل ضروب التمييز بين البشر على أساس الدين أو المذهب أو النوع أو العرق أو غيره، فإن «الدين» قد تنزَّل ضمن سياق تكاد هذه التمييزات أن تكون هى المحدد الأهم لبنائه. ورغم سعيه إلى خلخلتها؛ وبما يؤدى مع الارتقاء البطئ والتدريجى للوعى إلى إسقاطها، فإنه لم يكن ليقدر على القفز فوقها وإنكارها بالكلية. وهكذا فإنه قد راح يتعامل معها كحقائق يفرضها نظام الاجتماع الذى تنزَّل ليعمل داخله؛ وعلى النحو الذى جعل البعض يتصور أنه يقبل بها رغم ما يظهر من سعيه إلى محاصرتها، توطئة لرفعها. والأخطر من ذلك أن نظام الثقافة التى سادت فى إطاره قد قرأت تعامل الدين مع هذه التمييزات، على أنه نوعٌ من الإقرار بها؛ وبما جعلها تعمل على تثبيتها. وهكذا فإن منظومة الثقافة الغالبة التى تبلورت حول الدين (فى جوانبها الفقهية والعقائدية وغيرها) قد انتهت إلى ترسيخ هذه التمييزات على النحو الذى تحولت معه إلى جزء من بنية الدين ذاته.
وضمن هذا السياق، فإنه يمكن الإشارة إلى ما أورده القرآن من واقعة نموذجية تظهِر التباين بين نظام الاجتماع السائد بين أهل الأرض من جهة، وروح الوحى النازل من السماء من جهة أخرى.ورغم ما يبدو من هذا التباين الجليّ، فإن ما يلفت الانتباه هو ما يقوم به أهل الأرض من قراءات تؤول إلى تفريغ الوحى من مضمونه،وتثبيت نظام الاجتماع القائم. ولعل ذلك ما تؤكده، وعلى نحو صريح، القصة التى أوردها القرآن بخصوص ولادة مريم بنت عمران.يقول القرآن: «إذ قالت امرأة عمران رب إنى نذرت لك ما فى بطنى مُحررا فتقبَّل منى إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإنى سميتها مريم وإنى أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فتقبَّلها ربها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتاً حسناً». حسب هذه الآيات، فإن الأمر يتعلق بعجوزٍ عاقر تطلب من الله أن يهبها ولداً. وإذ حملت بالولد فعلاً فإنها قد نذرته (بإلهامٍ من الله، على قول الحسن البصري) ليكون خادماً لله فى المعبد. ولكن الولد الذى وضعته كان أنثى يأبى عليها نظام الاجتماع اليهودى القائم آنذاك أن تكون خادمةً لله فى المعبد؛ حيث يقوم نظام هذا الاجتماع على اختصاص الذكور وحدهم بالخدمة فى المعبد؛ تأسيساً على قاعدة أنه «ليس الذكر كالأنثى»، لما له من الأفضلية التى تضعه فى مكانة أعلى من مكانة الأنثى.
وغنيٌّ عن البيان أن ما جرى- حسب القرآن- من قبول الله للأنثى قبولاً حسناً إنما يكشف عن أن نظام رب السماء الذى يقبل الأنثى كالذكر تماماً يختلف عن نظام الاجتماع القائم بين أهل الأرض القاضى بأنه «ليس الذكر كالأنثى». ولعل ما هو جديرٌ بالالتفات هنا هو ما يبدو من إن القرآن يجعل قاعدة «ليس الذكر كالأنثى» من كلام امرأة عمران ليؤكد على انتماء هذه القاعدة إلى نظام الاجتماع القائم بين قومها. وفى المقابل فإن ما يقطع به من قبول الله للأنثى قبولا حسنا إنما ليؤكد أنه لا تمييز عند رب السماء بين الذكر والأنثى.وهكذا فإن قصد القرآن هنا هو نقض قاعدة تمييز الذكر على الأنثى؛ وبما يتأكد من أن علم الله المُسبق بنوع ما حملت به المرأة، وأنه أنثى، لم يمنعه من أن يلهمها أن تنذره لخدمته فى المعبد، ثم يكون قبوله لها قبولاً حسناً أمراً مقصوداً لتأكيد عدم قبوله بالتمييز بين الذكر والأنثى.
ورغم ما يبدو هكذا من أن سياق القول فى القرآن يجعل التمييز من عمل أهل الأرض، بمثل ما يجعل عدم التمييز هو خطاب رب السماء، فإن الثقافة المرتبطة بنظام الاجتماع السائد بين أهل الأرض تأبى إلا أن يكون التمييز قولاً لله. ولعل ذلك ما يكشف عنه النظر فى الطريقة التى جرت بها قراءة قصة امرأة عمران فى مدونات التفسير. فإذ تبدأ الآية بفعل القول منسوباً إلى امرأة عمران على النحو الذى يجعل كل ما يرد بعده من كلامها، فإن الكثيرين من المفسرين قد راحوا يحصرون كلامها فى مجرد القول «قالت رب إنى وضعتها أنثى»، ويجعلون كل ما يرد فى الآية بعد ذلك من قول الله. ومن هنا أن مُفسراً وفقيها كبيراً كالشوكانى قد مضى فى (فتح القدير) إلى أن «وليس الذكر كالأنثى» من كلام الله، رغم أن سياق الآية يجعله من كلام امرأة عمران الذى تعبر به عن السائد بين قومها.وهكذا فإن نظام الاجتماع ـ والثقافة المرتبطة به ـ قد راح يمارس ضغوطاً على القرآن لكى تنتهى به إلى تثبيت واحدة من القواعد الحاكمة التى يعمل بها هذا النظام.
وإذن فإنه وبدلاً من أن تتجه الثقافة إلى إكمال ما بدأه الدين من محاصرة هذه التمييزات، والعمل على إسقاطها بالكلية؛ وبما يجعلها تنتهى إلى تحقيق المقاصد التأسيسية الكبرى للدين، فإنها قد عملت على ترسيخها وتثبيتها. ومن هنا فإن السعى إلى أى تأسيسٍ فاعل لمفهوم المواطنة فى السياق الراهن يقتضى العمل على تفكيك منظومة الثقافة التى بلورت خطاباً للدين أبعد الدين عما أراده له الله من التسوية بين خلقه. وفى كلمة واحدة، فإن هذا التأسيس يستلزم تحرير الدين من قبضة الثقافة التى جعلت منه إحدى الأدوات التى تستخدمها فى تثبيت هيمنتها.