ما سر ولع النخبة السياسية، والتكنوقراط، والبيروقراطية باستخدام مفردة واصطلاح الأمن فى بعض خطاباتهم ووثائقهم؟ مؤخراً ظهرت مفردة «الأمن الفكرى» كإحدى استراتيجيات وزارة التعليم، لوقاية التلاميذ والتلميذات والطلاب والطالبات من «الفكر المتطرف»! وهو أمر ليس جديداً ويبدو أننا إزاء ظاهرة سوسيو- نفسية تبدو جلية حينا، وتتوارى أحياناً، ولكنها تظهر فى السلوك النخبوى الرسمي، حيث الحضور المستمر منذ أربعة عقود لمصطلح الأمن فى بنية الخطاب السياسى والتكنوقراطى والبيروقراطى ـ خارج معناه الفنى والإصطلاحى ومجالاته ـ الذى يتحدث عن الأمن السياسي، والأمن الثقافى، والأمن التعليمي، والأمن الاجتماعي، والأمن التربوي، وبقطع النظر عن هذه الاستخدامات الخاطئة، إلا أنها تعبير عن نفسية قمعية، تحاول حل المشكلات التى تظهر وتعجز عن التعامل السياسى والعلمى معها فتلجأ إلى لغة الأمر والنهى والحسم، دون إدراك أن هذا التوصيف اللغوى العنيف، يؤدى إلى حالة من اليأس واضطراب فى فهم المشكلات والأزمات مما يؤدى إلى عدم دراستها علميا وموضوعياً، ومن ثم يشكل اللجوء إلى اللغة العنيفة أحد عوائق التعامل مع الظواهر والأزمات، ويؤدى إلى أخطاء فادحة، يتعذر على التكنقراطى والبيروقراطى مواجهتها، ومن هنا ثم يميل إلى العنف اللفظى ليكشف عن ذهنية ونفسية تسلطية بامتياز، لا تستطيع مواجهة تعقيدات الظواهر والعلاقات الاجتماعية المعقدة، ولا إلى مواجهة جادة لأنماط التنشئة الاجتماعية والسياسية والتعليمية المختلة والمسيطرة على مؤسساتها، ومن ثم تتفاقم المشكلات وتنفجر، وتتحول أوضاعنا الاجتماعية والتربوية والتعليمية والثقافية.. الخ من سيئ إلى الأسوأ حتى وصلنا إلى حالة التجريف والترهل والكسل الجماعي، وعلى رأسه الكسل العقلى للنخبة الحاكمة. والسؤال لماذا ظهرت هذه المفردات الأمنية فى حياتنا، ومعها لغة الجزم والحزم القاطعة التى تقدم، وكأنها حلول للمشاكل الصعبة، ويبدو أنهم يستخدمون بعض هذه اللغة الخشبية الجوفاء كتعبير عن التهرب من مسئوليتهم عن إيجاد الحلول للأزمات الممتدة فى حياتنا!
ظهرت هذه التعبيرات اللغوية القمعية فى ظل حكمى السادات ومبارك حيث تدهورت مستويات اللغة السياسية والفنية، وظهرت بعض من ممارسات ومظاهر الفهلوة اللغوية والسياسية والتكنوقراطية والبيروقراطية، وسيطر اللغو والثرثرة واستراتيجية لغوية قمعية ووصائية على مستهلكى هذا النمط من الخطابات التى تنطوى على الاستعلاء والفوقية والتعامل مع الناس من أعلي، وهو جزء مما سماه جمال حمدان ظاهرة الفرعونية السياسية، حيث بدا ـ ولا يزال ـ الخطاب الرسمي، وكأنه يحمل القول الفصل والحاسم والجازم فى أمور معقدة لم تخضع لدراسات سوسيو ـ سياسية، وسوسيو ـ اقتصادية، أو سوسيو ـ ثقافية ـ إلخ تتسم بالجدية والموضوعية والعمق والنزاهة البحثية. وهو ما يشير إلى طابع الفهلوة السياسية فى تسيير أمور البلاد، حيث لا دراسات ولا سيناريوهات ولا بدائل للظواهر، اللهم إلا إذا تمت الاستعانة ببعض الثقاة فى بعض القضايا الوطنية الهامة كما حدث فى ملف تحكيم طابا!، وبعض الحالات الأخرى على قلتها، وهو ما ظهر بوضوح فى فشل عديد من السياسات الاجتماعية، وفى ملفات السياسة الخارجية فى حوض النيل، ودارفور، وسد النهضة، وليبيا، وفى الملف الفلسطيني/ الإسرائيلي، والفلسطينى الداخلي.. إلخ، وفى تراجع دور مصر الإقليمى على صعيد القوة الناعمة.. إلخ!
خطاب رسمى اتسم، ولا يزال بالعفوية والاسترسال والاستسهال والخفة التى تكشف الغطاء عن تدهور مستويات ونوعية النخبة ومساعديها والبيروقراطية وضعف الكفاءة وضحالة التكوين الاحترافى والثقافي، ونمط من ممارسة الحكم التسلطى بلا ضوابط دستورية أو قانونية.
اللغة الأمنية القمعية شكلت جزءاً من القاموس السياسى للتسلطية اللغوية ابنة التسلطية السياسية. الأخطر أن الحديث عن الأمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي، والأمن الثقافي، والأمن الفكرى لدى عباقرة أفشل وزارة، وهى التربية والتعليم، هو تعبير عن نفوذ وتغلغل الأجهزة الأمنية وروحها وفضائها التفكيرى فى ذهنية هؤلاء المسئولين، والأخطر.. الأخطر أنها تعبير عن عدم قدرة بعض ممن شغلوا موقع الرئاسة الأول فى البلاد على التعامل السياسى الرصين مع مشاكل الدولة والمجتمع معا- إلا قليلاً وجزئيا ً- ومن ثم أسندوا إلى جهاز الأمن المتضخم وظائف ومهام لا تدخل فى اختصاصاته الواسعة أصلاً! أحد أهم الأسباب وراء الحديث عن الأمن الثقافى والأمن الفكرى مؤخراً، هو تحول هذه الوزارات إلى جزء من أجهزة الدولة الإيديولوجية والدعائية، وميل بعضهم إلى مسايرة رئيس الجمهورية من خلال اللغة النفاقية، والسلوك الأمعى القائم على الموالاة المطلقة وإلى تحويل بعضهم أداء وزاراتهم إلى أداة لبث وترويج الفهلوة اللغوية لرئيس الجمهورية!
الظاهرة تعود أيضاً إلى أنها جزء من حالة عامة تتمثل فى هيمنة اللغة السائلة والغامضة والمضطربة فى غالب أجهزة الدولة، والنخبة، وبين الجمهور، والتى هى دلالة على تدهور فى التعليم والتكوين والخبرات، وشيوع لغة وتعبيرات غامضة تنطوى على تهرب من المسئولية والالتزام والانضباط اللغوى فى استخدام المفردات والتراكيب اللغوية، والمعانى والدلالات المحددة، وهى تجل من تجليات الفهلوة عموما واللغوية على وجه الخصوص!
أن حصاد هذه اللغة القمعية حول الأمن الفكرى التى تستخدمها وزارة التربية والتعليم وعنفها اللفظى ومفرداتها هى تعبير عن تضخم الحضور البوليسى فى تفاصيل الحياة اليومية، وتعبير عن فشل السياسي، وهو ما يؤدى فى النهاية إلى تسرب وتحول مضامين هذه اللغة وإشاراتها من معانيها ودلالاتها الواقعية فى الردع والمنع والكبح، إلى لغة خشبية جوفاء وموضوع للامبالاة وأحيانا لإثارة السخرية والنكات، لأنها لا تتحول من المجال اللغوى والاتصالى إلى مجال الفعل والإنتاج، وإذا تحولت إلى فعل تعليمى وتربوى تصبح كارثة تضاف إلى دعم وتكريس ذهنية الحفظ والتكرار، ولغة القمع والحسم التى يتعلم بها الطلاب، وتكون نتائجها كارثية على نحو ما نرى منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، وإلى الآن! أن مركز كارثة السياسة والمناهج التعليمية يتمثل فى النزعة القمعية ولغة الأوامر والنواهى من متون المواد المقررة إلى شروح المدرسين والمدرسات، ومن ثم يغدو الأمن الفكرى تكريسا للعقل النقلى والتكرارى الذى يفتقر للنزعة النقدية والإبداعية فى العملية التعليمية. الأمن الفكرى هو جزء من لغة الثرثرة والفراغ العقلي، وتعبير عن غياب الثقافة والمثقف والمقاربة السوسيو- ثقافية فى معالجة المشاكل، وعن سطوة الأمنى والبيروقراطى والتكنوقراطى فى حياتنا، ومن ثم تراكم مصريا كل هذا الفشل!!