الهجرات من مكوناتها وعناصرها، فنحن العرب يبدأ تاريخنا بالهجرة لا بالمولد، وما فرضته الصّحراء كبيئة قاسية من هجرات متعاقبة بحثا عن الماء والكلأ، كان له تجليات عديدة في مختلف العصور، وقد هاجر العربي ذات يوم فوجد نصيراٌ يستقبله ويتقاسم معه ليله الطويل و رغيفه، لكن المهاجرين الآن بلا أنصار، فهم بعشرات الملايين يقطعون اليابسة والماء بحثا عن متر مربع واحد آمن، ولأن معظم المقاربات المتداولة الآن إعلاميا عن الهجرة سياسية وإلي حدّ ما اقتصادية، فإن هناك مقتربا مهجورا وينتمي الي قارة المسكوت عنه في ثقافتنا، انه المقترب الأنثربولوجي، لهذا علينا ان نقوم باستعراض ولو أفقي لبعض الهجرات في عالمنا العربي، ومنها هجرة عبدالرحمن الداخل المسمي صقر قريش والتي انتهت ببناء أندلس هناك من يبكون علي اطلالة حتي الآن، فما أنجزه الجدّ المهاجر ضيعه الحفيد أبو عبدالله الصغير الذي عيرته أمه بالبكاء كالنساء حين أدبرت خيوله وغابت شمس غرناطة .
ومن أمثلة الهجرة التي كانت فرارا من الاضطهاد وبحثا عن مأمن، هجرة مثقفي بلاد الشام في القرن التاسع عشر الي مصر وقد ساهموا علي نحو ملحوظ في نهضتها لأنهم وجدوا في تربتها الحضارية الرافعة والملاذ والخميرة ايضا .
لقد فر هؤلاء وفي مقدمتهم الكواكبي صاحب طبائع الاستبداد من الاضطهاد العثماني و لم يجدوا غير مصر ملاذا ،مما يجزم بان الصلة التاريخية والجيوبولتيكية بين مصر والشام اقرب الي القدر ولا فكاك منها وقد ادرك ذلك حتي الغزاة لهذه المنطقة .
والهجرة لم تكن علي الدوام قَسْرية، فهناك من حرك الفضول و شهوة المغامرة لديهم الرغبة في الهجرة، وثمة في ثقافتنا ما يبرر ذلك بل يعظ به وهنا نتذكر ما قاله الشافعي وهو »هاجر تجد عوضا عمنّ تُفارقه«.. وان كان ذلك يحذف الارض من معادلة الوطن بحيث تكون المسألة استبدال بشر بآخرين يعوضون فقدانهم وغيابهم.
وفي منتصف القرن العشرين و تحديداً بعد الحرب العالمية الثانية عرف العرب نمطا غير مألوف من الهجرة الجماعية، هي هجرة الفلسطينيين عام 1948 والذين كانوا سببا في تغيير مفهوم وتعريف الخيمة في التراث الثقافي العربي، لأن الاماكن التي تجمعوا فيها سميت مخيمات وفي تلك الرحلة وجد المهاجرون أنصاراُ في النطاق القومي الذي حلوا فيه لكن ما يحدث الآن هو عكس ذلك، وهناك اقطار عربية هاجر اكثر من نصف عدد سكانها كالعراق وسوريا، وحين نسمع الآن عن فتح الحدود امام المهاجرين فذلك لا يعني أن اوروبا واستراليا والولايات المتحدة اصبحوا أنصارا للمهاجرين العرب، بقدر ما يعني أن المطلوب هو سوريا بلا سوريين وعراق بلا عراقيين ووطن عربي بلا عرب، وقبل أن تتداول الميديا مصطلح الهجرة وما يثيره من شجون سياسية و أمنية وثقافية كانت الاطروحة الاكثر رواجا في المؤتمرات هي هجرة الادمغة أو نزيفها، وبالفعل هاجر من العالم العربي خلال العقود الخمسة الماضية علي الأقل أعداد تشكل نسبة كارثية قدر تعلقها بتجريف الثقافة والعلوم وتصحيرها.
ان اقتران الهجرة في ثقافتنا وذاكرتنا التاريخية بالعودة بل بالفتح رسخ مفهوماُ يحتاج الي مراجعة دقيقة فالهجرة ليست دائماُ شرطا للعودة الظافرة، وقد افرط البعض في تأويل مفهوم الهجرة بحيث قال بعضهم إن هجرة الامام الخميني من ايران الي فرنسا انتهت ايضا بالفتح، أي بعودة المهاجر مُنتصرا، والحقيقة ليست كذلك، لأن طهران ليست مكة وباريس ليست يثرب،
المفارقة هي أن العالم العربي الذي كان يشكو قبل اندلاع الشرور كلها من صندوق باندورا الذي سمي ربيعه من الفائض الديمغرافي ويدعو الي تحديد النّسل، هاهو الآن يطبق نظرية مالتوس في تحديد النسل لكن بأساليب أخري تبدأ من المذابح والقبور الجماعية وتنتهي بموجات عارمة من الهجرة،
لقد حلم الانسان منذ أقدم الأزمنة بأن يذهب الي هناك.. أي الي الشاطئ الآخر من النّهر وذلك فضول غريزي عالجته روايات وملاحم، لكن ما يحدث الآن ليس بالدوافع ذاتها، انه من نتاج رعب وانعطاب بوصلة وطنية اضافة الي نداء الرّغيف، وحين يتحالف الثالوث اللعين وهو الجوع والخوف و العدمية فإن الاجهاز علي الفريسة يصبح مُحتٍّماٌ،
واذا كان لابد من التذكير بالمقترب السايكولوجي لاستقراء ظاهرة الهجرة اضافة الي المقتربين السياسي والانثروبولوجي، فهو يتلخص في رواية قصيرة للراحل د.يوسف ادريس، انه النّداهة لكنها هذه المرة ليست القاهرة كما ان المندوهة ليست فتاة قروية من ريف مصر، والصوت ليس صفير قطار.
النداهة الآن ميديا مدججة بمهارات التضليل، ولعاب امبراطورية درداء سقطت انيابها يسيل علي ما تبقي من رحيق هذه المنطقة المنكوبة بزلازل سياسية اشد في تردداتها من زلازل الجيولوجيا..
المطلوب علي ما يبدو عالم عربي تُرسم له تضاريس جديدة بخطوط طول وعرض طائفية وتتطلب هذه الوصفة افراغ العالم العربي من ساكنيه وتحوله الي اطلال تنعق فوقها الغربان بكل اللغات إلا العربية !!.