رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

3 ـ الدين والفن.. لغة واحدة

سأفترض أن فتاوى الفقهاء الذين حرموا تجسيد الشخصيات الدينية فى الصور والتماثيل والمسرحيات والأفلام استطاعت بالفعل أن تمنع تجسيد هذه

 

الشخصيات فى أعمال فنية، وهو ما لم يحدث، هل استطاعت هذه الفتاوى أن تمنع المسلمين وغير المسلمين من أن يتصوروا هذه الشخصيات ويتخيلوها بينهم وبين أنفسهم اعتمادا على قدراتهم الذاتية وعلى ما عرفوه عن هذه الشخصيات وقرأوه فى النصوص الدينية والتاريخية المتداولة؟

حين نقرأ أوصاف النبى عليه السلام كما نقلها لنا محمد حسين هيكل فى كتابه «حياة محمد» فنجده يقول: وكان محمد وسيم الطلعة، ربعة فى الرجال ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، ضخم الرأس ذا شعر رجل شديد سواده، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منونين متصلين، واسع العينين أدعجهما، مستوى الأنف دقيقه، مفلج الأسنان، كث اللحية، طويل العنق جميله، عريض الصدر، أزهر اللون...» ـ حين نقرأ هذه الأوصاف كيف نمنعها من أن تتحول إلى صورة؟ فإذا أردنا أن نستزيد من هذه اللمسات التفصيلية فسوف نجد الكثير الذى رواه علماء الحديث وكتاب السيرة والمؤرخون نقلا عن الصحابة وآل البيت مما لا يتسع المجال للاحاطة به. يكفى مثلا أن نعرف أن صحابة النبى كانوا يحصون الشعرات البيضاء فى رأسه وفى لحيته ويثبتون عددها فى حديثهم عنه. فقد أخبر ابن سعيد أنه ما كان فى لحية النبى ورأسه إلا سبع عشرة شعرة بيضاء.

وهل نستطيع أن نقرأ ما ذكره ابن هشام فى السيرة عن الاسراء والمعراج دون أن نرى بخيالنا ما حدث منذ حمل البراق النبى عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصي، ثم عرج صاعدا إلى سدرة المنتهي، ثم عاد إلى مكة يحدث أهلها بما وقع له؟ هل نستطيع بغير الخيال أن نرى هذه المعجزة الروحية الفريدة ونتعرف على أبطالها ونتابع أحداثها ووقائعها؟

والذى نجده فيما بين أيدينا من نصوص عن النبى محمد نجده فيها عن غيره من الأنبياء والرسل.

نحن نقرأ سورة يوسف فى القرآن الكريم فنرى يوسف مع أبيه واخوته، ونراه فى البئر، ونراه مع امرأة العزيز، ونراه فى السجن، ونراه فى خزائن المال. وكما نرى يوسف نرى إبراهيم وإسماعيل وإسحق، ونرى موسى وهارون، ونرى داود وسليمان لأن هذه النصوص وهذه الآيات التى نقرأها حافلة بالصور، مزودة بكل ما يمكنها من أن تخاطبنا وتتجلى لنا وتقنعنا. ولأننا فى المقابل نبحث عن الحقيقة ونسعى للوصول إليها بكل ما نملك من طاقات زودنا الله بها. فنحن نري، ونسمع، ونتذكر، ونتصور، ونتوقع، ونتأثر، وننفعل، كيف إذن نمنع أنفسنا أو يمنعنا أحد من أن نتصور هذه الشخصيات التى تطالعنا صورها فى كتبنا المقدسة وفى أحلامنا ورؤانا؟

فإذا كنا مطالبين بأن نقرأ هذه الكتب وأن نصدق ما جاء فيها ونؤمن به، كيف نكون مطالبين فى الوقت ذاته بأن نقرأ دون أن نتصور، وبأن نصدق دون أن نتخيل ودون أن نتعاطف وننفعل؟!

وإذا كنا قادرين على أن نتصور هذه الشخصيات ونتخيلها اعتمادا على ما نملك من نصوص دينية وتاريخية، لماذا نمنع من أن نحول ما نتصوره وما نتخيله إلى أعمال فنية تجمع بين ما نتلقاه من المصادر والمراجع الموجودة عن هذه الشخصيات وما نخلعه نحن عليها من انفعالات ورؤي؟

وقد رأينا فيما سبق نشره من هذا الحديث أن فتاوى التحريم لم تمنع المسلمين من أن يتصوروا النبى وآله وصحبه ويصوروهم ويعبروا عن اعتقاداتهم فيهم وعواطفهم نحوهم فى الشعر والنثر والرسم والعمارة والموسيقي. وأنا لا أستطيع أن أحصى الشعراء والكتاب والفنانين الذين تناولوا الموضوعات الدينية وتحدثوا عن عشقهم الالهى ومدحوا النبى وصوروه هو وآله وأصحابه، لكنى أستطيع أن أذكر حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، والحلاج، وابن عربي، وابن الفارض، وجلال الدين الرومي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وهيكل، وطه حسين، والعقاد، والحكيم فى مسرحيته «محمد» والشرقاوى فى «الحسين»، ونجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا». هؤلاء لم يكونوا عصاة، ولم يرفضوا فتاوى الفقهاء، ولم يخرجوا عليها قاصدين، بل خرجوا عليها لأنها تفرض عليهم أن يتنكروا لطبائعهم ويحولوا عقائدهم إلى مقولات رياضية مجردة يرددونها بألسنتهم دون انفعال أو تعاطف، وهو ما لم يستطيعوا الاستجابة له. لأن إيماننا القوى بالفكرة يقربها لنا ويحولها إلى صورة نراها ونخاطبها ونحبها ونعشقها.

والإنسان طاقات وحواس يستدعى بعضها بعضا. الصوت يستدعى الصورة. والصورة تستدعى اللون. والذاكرة لا تعمل بعيدا عن الخيال. والحدس ليس مجرد ذكاء أو موهبة، ولكنه ثقافة عميقة وخبرات مكنونة. وقد تحدث نقاد الفن وفلاسفته عن تراسل الحواس وتداعى الاحساسات كما فعل الشاعر الفرنسى شارل بودلير فى قصيدته correspondancesـ توافقات ـ فنحن فى هذه القصيدة نرى الحواس تتراسل أو تتداعى لتشارك معا كلها فى معرفة الوجود وتمثله. وهذا ما شرحه ثروت عكاشة فى الصفحات التى قدم بها الجزء الأول من موسوعته القيمة «العين تسمع والأذن تري».

ونحن نعرف أن الكتابة بدأت عند قدمائنا صورا مرسومة قبل أن تتحول إلى حروف وخطوط. ونعرف أن النغمات والألحان التى كانت أصواتا تحفظها الأذن صارت فى «النوتة الموسيقية» علامات تكتب وتقرأ. من هذا يتضح لنا أن تصوير الشخصيات الدينية سلوك طبيعى ونزوع تلقائى سبق إلى تفسيره الفلاسفة المسلمون كما نجد فى كلام محيى الدين بن عربى عن الخيال ومكانه فى التجربة الصوفية، كل ما نحتاج إليه لتحويل هذا النزوع التلقائى إلى حق معترف به هو أن تتوافر لمن يتعرض لتصوير الشخصيات الدينية المعرفة اللازمة والاحترام الذى يعين المجال ويضع الحدود.

وقد رأينا أن التعصب والخلط والاستهتار دفعت البعض إلى اساءة استخدام هذا الحق كما فعل بعض الكتاب والصحفيين والرسامين الأجانب فى تصويرهم للرسول الذى اعتبروه مسئولا عما يقوم به الإرهابيون المنتمون للإسلام زورا وبهتانا. كأن هؤلاء الإرهابيين لا يكونون إلا مسلمين، وكأن المجتمعات الغربية لا تعرف الإرهاب، وكأن الأمريكيين لم يحتضنوا القاعدة ولم يستخدموها، وكأن المجتمعات الأوروبية ليست مسئولة عما يقع فيها للمسلمين وما يدفع بعضهم للخروج عليها وعلينا. لكن هذه الاساءات لا يرد عليها بمثلها، ولا يرد عليها بالعدوان على حرية التفكير والتعبير، بل يرد عليها بتقديم الحقائق ونقد الأخطاء. وإذا كنا نعرف بعض الذين اساءوا فنحن نعرف الكثيرين الذين أحسنوا.

لقد كتب عن رسولنا الكريم توماس كارليل، وإميل درمنجم، ووليم موير، وواشنطن ارفنج فتجملوا فيما كتبوه بالفهم والإنسانية والاخلاص للحقيقة والتعاطف حتى مع ما يجوز أن يكون محلا للخلاف. ولو قرأنا ما نظمه الشاعر الألمانى العظيم جوتة عن الرسول فى مسرحية لم يكملها لرأينا كيف يمكن أن نربح من تصوير الشخصيات الدينية ومن احترام حرية التفكير والتعبير التى نتمكن بها وحدها من الرد على من يسيئون استخدامها.

رسول الله فى مسرحية جوتة أخ لكل البشر يأخذ بايديهم ويشدهم معه منطلقا بهم كالسيل العارم فائرا متوثبا نحو السماء مهللا تهليل الفرح!

وللحديث بقية


لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي

رابط دائم: