يلاحظ المتابع لتحولات الظاهرة الارهابية فى أفريقيا وما حولها من بلدان الشرق الأوسط أنها تعبر عن مستويات غير مسبوقة من العنف والتدمير. ويبدو أن عدمية وتوحش دعاة التكفير والهدم فاقت دموية مسخ الدكتور فرانكنشتاين فى فيلم الخيال العلمى المشهور. وعلى الرغم من اختلاف السياقات وطبائع الحركات والجماعات التكفيرية العنيفة، وهو ما يستلزم تعدد واختلاف أنماط المواجهة، فإن القاسم المشترك بينها هو كراهية الحياة والنزوع نحو تدمير الحضارة الانسانية من أجل العودة إلى أمجاد ماضوية مزعومة.
فى أوائل أغسطس الماضى أعلن الرئيس التشادى ادريس ديبى مقتل أبوبكر شيكاو زعيم بوكوحرام. وعلى الفور سارعت وسائل الاعلام بنشر صورة زعمت أنها جثة الرجل . بيد أن جماعة بوكوحرام قامت بالرد العملى من خلال بث تسجيل صوتى لزعيمها يثبت أنه لايزال حيا يرزق. لم يكن الرئيس ديبى وحده متسرعا فى الاعلان عن نهاية بوكوحرام وإنما الرئيس النيجيرى بوهارى كذلك طلب من قادة جيشه التخلص من أكثر الجماعات تطرفا فى غرب أفريقيا فى غضون ثلاثة أشهر فقط!
وإذا نحينا هذه التصريحات الرسمية جانبا لوجدنا أن هذه الحركات التكفيرية العنيفة تواصل التوالد والتطور من الناحيتين البنائية والتكتيكية وذلك فى مواجهتها لكل من الدولة والمجتمع على السواء. ففى العام الماضى تعرضت مدن الشمال النيجيرى لنحو أربعمائة هجوم أدى إلى مقتل أكثر من تسعة آلاف شخص ، وربما أسهم ذلك فى تآكل شرعية إدارة الرئيس السابق جوناثان جودلاك وانتخاب الجنرال بوهارى على أمل أن يكون الزعيم المنقذ لنيجيريا عملاق أفريقيا «المترنح».
وإذا كانت بوكوحرام قد أعلنت فى مارس الماضى بيعتها لما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية بزعامة أبوبكر البغدادى وغيرت اسمها لتصبح ولاية غرب أفريقيا فإن الشباب المجاهدين فى الصومال لاتزال على ولائها للقاعدة. ولعل ذلك يفرض علينا ضرورة البعد عن المنهج التبسيطى فى فهم الظاهرة الارهابية والتعويل على سياقاتها الأفريقية المتباينة.
إن سياسات العسكرة والحلول الأمنية فى شرق وغرب أفريقيا أدت إلى تحولات تكتيكية غير متوازنة فى سلوك جماعات العنف ذات الاسناد الدينى من خلال استخدام أسلوب السيارات المفخخة والتفجيرات الانتحارية . ولعل مكمن الخطورة هنا هو تجاوز الاطار المحلى لهذه الجماعات لتصبح أحد أبرز عوامل عدم الاستقرار الاقليمى فى الواقع الأفريقى. وتكمن المفارقة الأساسية فى أنه على الرغم من التدخل العسكرى الإقليمى والدولى فى كل من حالتى بوكوحرام والشباب المجاهدين فإن هؤلاء التكفيريين الذين يلتحفون برداء التوحش أبعد ما يكونون عن نقطة نهايتهم المحتومة فى الوقت الحاضر. ما الذى حدث خطأ؟ وما هو الحل؟ وهل الوقت مناسب لتبنى نهج استراتيجى مغاير؟
باعتقادى أن تجربة الرئيس بوهارى خلال الأشهر الأولى منذ توليه السلطة فى نيجيريا تعبر عن رؤية جديدة أسهمت فى تضييق الخناق على بوكو حرام ووضعت قادتها أمام أزمة كبرى. لقد استطاع الجنرال المخضرم الذى كان رئيسا لنيجيريا قبل ذلك فى الفترة من 1983-1985 أن يجعل القضية على رأس الأولويات. وعلى الفور قام باتخاذ العديد من التدابير العسكرية والسياسية والاقتصادية. فقد هيمنت بوكوحرام على جدول أعمال زياراته الخارجية الأولى فى النيجر وتشاد والكاميرون والولايات المتحدة.
لقد اهتم بوهارى بتطبيق نهج المسارات المتوازية, فعلى الصعيد العسكرى أصدر أوامره بنقل مقر القيادة العسكرية المشتركة من أبوجا إلى مايدوغورى مركز التمرد فى شمال البلاد. كما أنه أجرى سلسلة من التعيينات فى قمة الهرم القيادى للجيش بهدف رفع الكفاءة ودعم الروح المعنوية للجنود. أما على أصعدة محاربة الفساد وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين فقد اتخذ مجموعة من المبادرات التنموية لصالح الفقراء فى الشمال بالإضافة إلى محاولة تنويع مصادر الدخل القومى وتوفير فرص عمل للشباب، والأهم من ذلك كله محاولة فك الاشتباك بين ما هو دينى وماهو سياسى مدنى وذلك من أجل كشف زيف خطاب بوكو حرام التكفيري.
هل يكفى ذلك لاقتلاع جذور حالة التوحش التى نمت كالنبت الشيطانى بين ظهرانينا؟ لا أظن ذلك. إننا بحاجة إلى حلول جذرية وارادة قوية من أجل تغيير الموروثات الجامدة . أليست أفكار داعش وأخواتها حول المرأة والأقليات والديمقراطية لاتزال موجودة فى بعض مناهجنا الدراسية وخطابنا الدينى وتراثنا الفقهى الذى أضفى البعض عليه طابع القداسة؟ وهنا تبرز بجلاء أهمية التعليم والتفكير النقدى والاستثمار فى العقول من أجل المستقبل. إننا بحاجة إلى مشروع تجديدى يأخذ بأيدينا إلى عالم الحداثة ونموذج الحياة الطيبة الذى دعا إليه الاسلام الحق. ولعل من أبرز الاجتهادات التى شدت انتباهى كونها تعبرعن سياق ثقافى تعددى غير عربى ما طرحه المفكر الجنوب أفريقى فريد اسحق ورؤيته حول الاسلام التقدمي. لقد طالب الرجل بأن يخرج الفكر الاسلامى من ثنائية دار الكفر ودار الاسلام إلى رحابة دار التعايش والتنوع الثقافى.
ويعد اسحق متمردا على المنهجية التقليدية فى الفكر الإسلامى فقد دعا فى كتابه الخاص بتفسير القرآن إلى إحداث ثورة حقيقة فى المنهجية الإسلامية، الأمر الذى دفع به الى القول بوجود مجموعة من الأخلاق الإسلامية المتوافقة مع القيم الليبرالية تحديدا. إنه لا يقبل بإعادة إنتاج التفسيرات والمناهج التقليدية التى سادت فى حقب تقليدية قديمة. يقول اسحق إن منظومة الأخلاق التى ينطوى عليها القرآن، وعلى الرغم من كل شيء لا تتعارض مع المثل الغربية السائدة اليوم. ولاشك أنه بهذا القول يسلك نفس النهج الذى سلكه مفكروا الحداثة الإسلامية أمثال أمير على الذى أعاد النظر قبل نحو مائة عام فى تأويل القرآن الكريم ليجد بين صفحاته نفس الإطار الأخلاقى الذى حكم انجلترا فى العهد الفيكتورى.
أحسب أن مثل هذه الرؤى التجديدية بعيدة المدى التى تفك الاشتباك بين الدينى والسياسى وتؤسس لدولة المواطنة العادلة التى تقوم على مبادىء الرشادة والمساواة بين الجميع هى الأمضى والأقوى فى محاربة فكر وسلوك التوحش الذى نما وترعرع بيننا. لقد انشغل البعض منا فى الحديث عن المؤامرة الكبرى التى تستهدف المسلمين، وذهب بعض آخر للتنظير فى عوامل السياسة والاقتصاد وحتى علم النفس فى محاولة للتبرير . وعلى الرغم من أهمية ذلك كله فى تفسير الظاهرة الارهابية فإننا لن نصل إلى الجذور والأصل. فمن يزور العالصمة الكينية نيروبى يجد حى «كبيرا» الفقير الذى يقطنه آلاف المعدمين فى أكبر تجمع عشوائى بكينيا الناهضة ،ورغم ذلك فإن هؤلاء لم يتحولوا إلى انتحاريين يسعون إلى طلب الشهادة. إنهم فقراء وكفى. لا أريد أن يفهم من كلامى تبرير الفقر أو الاستبداد ،لا سمح الله، او حتى التدخل الأجنبى، ولكن أود التركيز على متغيرات الثقافة ودور التعليم وصناعة العقول. وهذا هو التحدى!