رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

المؤسسة الجامعية بين الإصلاح ونمطية الحلول

تعد المؤسسة الجامعية المصرية واحدة من أعرق الكيانات التنويرية فى منطقة الشرق الأوسط، ويمكن القول إن تأسيس الجامعة المصرية عام 1908م ،كان

بداية عهد جديد انطلق فيه الإشعاع الحضارى لمواجهة العقل المستقيل، وبنيته الاستسلامية الجامدة، ليبدأ عصر تحرر المعرفة من أسيجة الماضى ودوائره المغلقة، وصولا بالمعرفة إلى مناطق أكثر اتساعا، انطلاقا من منهجية العقل الكلية فى التعاطى مع الواقع وإشكالياته، وفى ضوء تحرر كامل من وصاية العقل النقلى وبنيته القياسية.

ومع سطوع نجم الجامعة، ظهر للوجود مشروع ثقافى تنويرى متفرد، وتأسست الجامعات الاقليمية كروافد لنهر متجدد المنابع، بات يفيض علما ومعرفة، ترتوى منه عقول لا تكف عن طلب العلم، وتمظهر كل هذا فى ظهور قوة مصر الناعمة على جميع الأصعدة الفكرية والثقافية والابداعية.

ومع الوقت وقعت المؤسسة الجامعية تحت ضغط عدة عوامل أضعفتها، فمع عدم وضوح أى مؤشرات تدل على وجود مشروع فكري، فى ظل غموض التوجهات الأيديولوجية للدولة التى تبنت هجينا مشوها يخلط ما بين الاشتراكية واقتصاديات السوق، وفى ظل أوضاع اقتصادية وسياسية صعبة، تحولت الجامعة إلى مؤسسة بيروقراطية تعانى إكراهات اللوائح والقوانين الجامدة، وهو ما أفرغها من مضمونها كمؤسسة بحثية، كما تعرض الدور التنويرى لعقبات ومنحنيات صعبة فى ظل صعود التيارات الدينية التى لعبت أدوارا رقابية، ومارست عنفا ممنهجا تحت سمع وبصر الدولة التى غضت الطرف عن تلك الممارسات بهدف تحقيق مكاسب سياسية نوعية، ومع الوقت باتت مهنة أستاذ الجامعة مجرد وظيفة تحقق نوعا من المكانة مع انحسار الدور العلمي، ومع فض الارتباط بين الدور والمكانة، وتراجع المردود الاقتصادى وضعف ميزانية البحث العلمي، بدأت هجرة العقول إلى الخارج، وهو ما أضعف المنظومة وأحدث فراغا هائلا فى بنيتها، وهو فراغ لم يستطع الجيل اللاحق سده.

وتسابقت عوامل الضعف والإنهاك لإحداث مزيد من التراجع، فى ظل عدم مواكبة نظم التقييم والامتحانات للمعايير الحديثة، والاعتماد المطلق على نظام امتحان نهاية العام أو التيرم، بكل ما يمثله من جمود يكرس عملية الحفظ والتلقين، ولا يساعد على اكتشاف المبدعين والقادرين على القيام بمهمة الباحث الحقيقي، ومع الوقت باتت هيمنة فئة لا تملك ملكات البحث العلمى الحقيقى على مقدرات البحث العلمي، فى حين لفظت الجامعة أصحاب المواهب الحقيقية، ليظهر جيل جديد من الحفظة، وبدأت خيوط المأساة تنسج ستارا من الضحالة والركاكة، مع ظهور الاستقطاب والشللية، وأصحاب الحظوة والنفوذ، ويبدأ مسلسل التوريث فى ظل عدم وجود سياسات واضحة، أو لوائح محددة للتعيين، مع جمود قواعد الترقية التى باتت المصالح والعلاقات الشخصية تلعب الدور الأول فيها، ومع الوقت أصبح النظام التعليمى فى الجامعة يدور فى مسارات مغلقة، وباتت المخرجات ضعيفة وهشة، وانشغل الجامعيون بالصراعات الشخصية، ولعبة المصالح والتجاوزات وتجارة الكتب والأبحاث.

وفى التسعينيات حدث تحول خطير أسهم فى تحقيق المزيد من التراجع، واستمرار مسلسل التجاوزات، حيث ظهرت شريحة يمكن أن نطلق عليها اصطلاحا مفهوم الشغيلة، فمع إغلاق أبواب التعيين أمام الطلبة المتفوقين، وفى ظل رغبة هؤلاء المحمومة فى تحقيق المكانة، التحقوا بالدراسات العليا، وظهر نظام المنح الدراسية، وهى منح تقدمها الجامعة للطلبة الراغبين فى إكمال مسيرة التعليم العالي، نظير رواتب شهرية زهيدة تتراوح بين 25 و100 جنيه فى الشهر، وتلقفت الأقسام هؤلاء الطلبة، ووضعت لهم نظام ساعات العمل، ومع الوقت أصبح طالب المنحة يقوم بأعمال التدريس والمراقبة والتصحيح لمصلحة الأستاذ، تحت وطأة الرغبة فى تحقيق الذات، وفى ظل الوعود بالتعيين، توسعت مهمات الشغيلة وانضم إليهم عدد غير قليل من غير الحاصلين على المنح، ليصبحوا أشبه بـ «عسكرى المراسلة»، وتحت نير القهر والحاجة إلى الدور بات الشغيلة يمارسون بالوكالة شتى صنوف التجاوزات، ولعب الشغيلة فى الظل ومارسوا تحت وطأة الحاجة والطموح أساليب الاحتيال لمصلحة الأساتذة الكبار، ولمصلحه أنفسهم أيضا لتنشأ طبقة طفيلية أخرى سرعان ما دهستها أقدام الكبار.

ويمكن القول إن الدور الأكاديمى المصرى كاد ينهار تماما، لولا ظهور شريحة من الشباب المثقف والملم بأحدث المنهجيات والنظريات التى أصبحت الأكاديميات المصرية فى غيبة عنها، أحدث هؤلاء زخما هائلا، وملأوا فراغا كبيرا، وأسهموا بجد واجتهاد فى المحافل والمؤتمرات الدولية بعيدا عن المؤسسة الجامعية التى باتت تنتظر رصاصة الرحمة.

لقد بدأت وزارة التعليم العالى فى الآونة الأخيرة سلسلة تحقيقات موسعة، وأحيلت مجالس أقسام بكاملها إلى التحقيق، وفى شفافية مطلقة بدأت نتائج التحقيقات تظهر للجميع، وكشفت فى الاسابيع الأخيرة قضايا مثيرة ووقائع مخزية، من تزوير وتدليس وتلاعب بالنتائج وممارسات فاسدة، ورغم قسوة ما يتم الإعلان عنه، إلا إنه بات يمثل خطوة كبيرة لا غنى عنها للقضاء على مراكز القوى ورءوس الفساد، وإظهار وجود رقابة لا ترحم الفاسدين، فاستقلال الجامعة لا يعنى كونها دولة داخل الدولة بلا حساب، ويبدو أن الحاجة إلى تأسيس جيل جديد من الأساتذة أصبحت ملحة، لنبدأ برأس الهرم كما فعل محمد على، لتعود المؤسسة الجامعية المصرية إلى ممارسة دورها المعرفى والتنويرى كما بدأت وكما ينبغى لها أن تكون.


لمزيد من مقالات د. سامح محمد إسماعيل

رابط دائم: