ذويهم رسالة بريدية يحتاجون للاطلاع على ما فيها، فيذهبون إلى من يفك الخط يقرأها لهم كما كتبها مرسلها، لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا. وبعض الذين يتصدون للفتوى فى الأمور التى تتصل بالدين ـ أو لا تتصل به!ـ لا يختلفون كثيرا عن هؤلاء الذين وقف بهم علمهم عند فك الخط لا يفكرون فى سؤال السائل، ولا فى علاقته بالدين، ولا يجتهدون فى معرفة الظروف التى طرح فيها والاعتبارات التى لابد من مراعاتها فى تقديم الجواب. لأن طرح السؤال يفترض وجود أكثر من جواب يفاضل المفتى بينها ويختار واحدا منها، ثم يحتاط لنفسه فيقول: والله أعلم!
هؤلاء الذين يظنون أن الفتوى لا تحتاج إلى أكثر من فك الخط، أعنى أنها لا تحتاج إلى أكثر من أن يذهب أحدهم إلى موسوعة من هذه الموسوعات الحافلة بالإجابات الجاهزة يستخرج منها الإجابة التى صكها غيره فى ظروف لم يعد لها وجود استجابة لمطالب حلت محلها مطالب أخري، واتباعا لثقافة موروثة ومعلومات لم يميز فيها بين الصواب والخطأ أو بين المؤكد والمشكوك فيه ـ أقول ان الذين يطلبون الفتوى من هؤلاء لا يحصلون على فكر جديد أو فقه نافع، وإنما يحصلون على عبارات محنطة لا تصلهم بالحياة ولا تقربهم من الحقيقة. ويكفى أن نتابع ما يدور الآن حول الفيلم الذى انتجه الإيرانيون عن محمد عليه السلام وما يقوله عنه بعض الأزهريين لنرى أنهم تجاوزوا كل الشروط التى لابد من مراعاتها فى تقييم الفيلم والحكم عليه صوابا وخطأ وتحليلا وتحريما.
وأول هذه الشروط أن يشاهدوا الفيلم. وهم لم يشاهدوه لأنهم يعتقدون أن مشاهدته حرام، وإذن فكل ما بذل فى إنتاجه وإخراجه وفى عرضه ومشاهدته حرام!
ما الذى يريد الإيرانيون أن يقدموه فى هذا الفيلم للجمهور المشاهد؟
هذا الجمهور ليس محصورا فى إيران، وليس محصورا فى المسلمين، وإنما هو جمهور السينما فى العالم كله الفيلم يعرض الآن فى مهرجان مونتريال ـ فاللغة التى يخاطب بها الفيلم جمهور السينما لابد أن تكون معروفة للجميع مقبولة لدى الجميع. هل راعى الإيرانيون هذا الشرط؟
ثم ان سيرة النبى صلى الله عليه وسلم أوسع وأغنى من أن تستوعبها قصة واحدة أو فيلم واحد، فما هى الجوانب أو المراحل التى اقتصر عليها الفيلم واعتبرها نافذة يطل منها المشاهد على سيرة هذا الرجل العظيم؟
وكيف اختار المخرج من جسد هذه الشخصية ومن شاركوه فى الأداء؟
وما هى الجهة أو الجهات التى قامت بإنتاج هذا الفيلم بالشروط التى لابد أن تتوافر له؟ هل شاركت الحكومة الإيرانية فى إنتاجه بأى صورة من الصور؟ فما هى الرسالة التى أرادت أن تصلنا نحن المشاهدين عن طريقه؟ هل ابتعدوا عن السياسة أم خاضوا فيها؟
هذه الأسئلة لم أجد لها مكانا فى الصخب الدائر الآن حول الفيلم بين الأزهريين وغيرهم. لقد اختزلوها جميعا فى كلمة واحدة: حرام أم حلال؟
سافترض أنه حرام، وأننا مطالبون بعدم مشاهدته، لكن كيف؟
كيف وهو يلاحقنا فى دور عرض العالم، وصحف العالم وقنوات العالم، ومهرجانات العالم وغيرها من الجهات والأدوات التى فتحت العالم كله أرضه وسماءه على البشر جميعا وعلى المسلمين قاطبة أيا كان موقعهم وأيا كان موقفهم من فتوى الأزهر؟
أنا شخصيا لم أقتنع بهذه الفتوى لأنها لست مبنية إلا على أساس مرفوض، هو سعى أصحابها المحموم لأن يحولوا الإسلام من دين إلى دولة، ولأن يتحولوا هم بالتالى من علماء دين إلى سلطة دينية، وإلا فلماذا يرفضون تصوير الشخصيات الدينية وتقديمها فى أعمال فنية؟
يقولون إن تصوير الشخصيات الدينية ينقلها من مقام التقديس الذى نبدو فيه متفقين إلى مقام التجسيد الذى نختلف حوله. المسيح عليه السلام الذى يصوره الأوروبيون أبيض مثلهم أو أشقر يصوره الأفارقة والآسيويون ملونا، ولست أظن أن هذا الاختلاف كان له أثر سلبى على عقائد المسيحيين.
لأن المسيح عند المؤمنين برسالته عقيدة ورمز وليس لونا أو صورة. الصورة تشير إليه وتذكر به، لكنها ليست هو، والصورة تختلف، وتظل العقيدة واحدة. ونحن المسلمين لنا فى المسيح عقيدة تختلف عن عقيدة المسيحيين، لكن هذا الاختلاف لم يخرجنا من عقيدتنا ولم يخرج المسيحيين من عقيدتهم.
ونحن، أصحاب الدين الواحد، نختلف فيما بيننا حين نقرأ نصوصنا الدينية. لأن الدين ليس علما تجريبيا وليس منطقا رياضيا، وانما هو عقيدة تتمثل فيها روحنا ونعبر عنها بلغة رمزية أو مجازية نفهمها ونتذوقها بصور مختلفة نحاول فيها أن نقرب البعيد ونعانقه ونتحد به، هكذا صنعت رابعة العدوية، والحسين بن منصور الحلاج، وابن عربي، وابن الفارض وغيرهم من متصوفة المسلمين. وهكذا صنعت القديسة تريزا، والقديس يوحنا الصليبى وغيرهما من متصوفة المسيحيين.
هذه اللغة الرمزية التى يقرأها كل منا على النحو الذى يفهمه ويتذوقه ويلبى به حاجاته الروحية والثقافية، نقرأها جميعا فنجد أننا متفقون حول حقيقة الدين وعقائده الجوهرية. وهذا ما عبر عنه محيى الدين بن عربى فى نونيته الرائعة التى لا أمل استحضارها فقال:
لقد صار قلبى قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبيت لأوثان، وكعبة طائف
وألواح توراة، ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب دينى وإيماني!
وكما تستخدم هذه اللغة الرمزية أو المجازية فى الدين تستخدم فى الفن، ومن هنا الدور الذى أدته الفنون الجميلة فى خدمة الدين وفى التعبير عن العواطف الدينية. فالجمال قيمة دينية. الله جميل يحب الجمال. كما أن الحق قيمة فنية يطلبها ويدافع عنها الأدباء والفنانون.
ونحن نعرف بالطبع أن رابعة العدوية كانت شاعرة وأنها عبرت فى شعرها عن حبها بالمعنى الكامل للذات الالهية لكن الكثيرين لا يعرفون أنها كانت أيضا عازفة متمكنة على الناي.
وكما عبر فن الشعر عن هذه العواطف عبرت عنها كل الفنون بما فيها فن الرقص كما فعل المولوية اتباع جلال الدين الرومى فى رقصتهم المستوحاة من فلسفة أفلاطون وجدله الصاعد.
انهم فى رقصتهم هذه يدورون حول أنفسهم كما تدور الكواكب، ويتخلصون من ملابسهم التى ترمز لأجسادهم ويطيرون بأرواحهم إلى عالم المثل يعودون إليه بعد أن يتطهروا.
وإذا كان الرقص قد عبر بهذه الثقافة الرفيعة عن العواطف الدينية فالسينما وهى فن جامع يتألف من فنون عدة أقدر على التعبير والتصوير.
ولهذا الحديث بقية