من بين دول آسيا التى يشكل المسلمون أغلبية مواطنيها، تظهر اندونيسيا الدولة الأولى المرشحة لبناء مشاركة استراتيجية فعالة مع مصر. أقول ذلك من واقع دراستى للعلاقات البلدين منذ استقلال اندونيسيا سنة 1945، ومن واقع عدة زيارات لهذه الدولة كان آخرها عقب ثورة 30 يونيو للحوار مع الاعلام والبرلمان الاندونيسى حول ماجرى فى مصر. لاحظت فى تلك الزيارات أن الاندونيسيين بكل شرائحهم يكنون تقديرا كبيرا لمصر. فقد تلقيت دعوات من أحزاب ومواطنين للتحاور أو مجرد تناول الطعام. معظمهم لم أعرفهم من قبل، ولكن يكفى فى تلك الدولة أن تقول اننى مصرى وكفي. فمصر بالنسبة لهم هى بلد الأزهر الذى يتعلم فيه آلاف الطلاب الاندونيسيين وتخرج كثير منهم وعمل فى المراكز القيادية فى بلده، ومازال يحتفظ بذكرياته وحبه للبلد الذى درس فيه.
منذ عشر سنوات طلبت مقابلة وزير الخارجية، حسن ويراويدا، الذى أعرفه منذ أن كان سفيرا فى مصر، فاذا به يرد بأن أحضر الى مكتبه دون موعد. ذهبت اليه فى مقر الوزارة فى طريقى الى المطار، ولما علم بوجود زوجتى فى صالون مكتب الوزير أصر على حضورها الاجتماع، ولم ينه الجلسة الا بعد أن علم بموعد طائرة العودة. لاينسى شعب اندونيسيا أن مصر هى أول دولة وقفت الى جانبه قبل الاستقلال وبعده، وأنه عندما فرضت هولندا الحصار البحرى على اندونيسيا لمنع سوكارنو من اعلان الاستقلال ، أرسل عزام باشا، بتأييد من الخارجية المصرية، السفير محمد عبد المنعم، قنصل مصر فى بومباي، بطائرة خاصة اخترقت الحصار، وقابل القنصل أحمد سوكارنو فى 15 مايو سنة 1947، وأبلغه بتأييد العرب. ولاينسى أيضا أن أول اتفاقية صداقة وتعاون وقعتها اندونيسيا كانت مع مصر فى مقر وزارة الخارجية المصرية، بحضور آجوس سالم، نائب وزير خارجية اندونيسيا فى ذلك الوقت، وأن السفير الهولندى حضر الى مقر الوزارة لكى يقدم احتجاجا، فنهره رئيس الوزراء ، النقراشى باشا وطلب منه مغادرة مقر الوزارة. ونعلم أنه هو النقراشى باشا الذى اغتاله الاخوان فى العام التالي. ومن ثم فانه عندما ألغت مصر معاهدة سنة 1936 وأعلنت أن لقب الملك فاروق سيكون ملك مصر والسودان، اعترفت اندونيسيا فورا بالقرار المصري، كما اعترفت بثورة 23 يوليو سنة 1952. لدينا اذن رصيد شعبى ورسمى كبير فى اندونيسيا، ولدى الاندونيسيين أيضا رصيد كبير عند المصريين منذ انعقاد مؤتمر باندونج سنة 1955، الذى دشن حركة التضامن الافريقي-الآسيوى الذى حضره عبد الناصر على رأس وفد كبير، وأصبحت اندونيسيا بعده شريكا لمصر فى تلك الحركة وفى حركة عدم الانحياز وغيرها.
استمر هذا الرصيد الهائل شعبيا، ولكنه لم يستمر رسميا. اذ إنه مع عصر مابعد عبد الناصر، ضعفت قوة الدفع فى العلاقات المصرية الاندونيسية نتيجة سياسة «التحول غربا» . وربما كان الاستثناء الوحيد هو زيارة الرئيس سوهارتو الى مصر سنة 1977، والرئيسة ميجاواتى سنة 2002، والرئيس سوسيلو بامبانج سنة 2004، مقابل زيارة واحدة للرئيس مبارك الى اندونيسيا سنة 1983. وبينما تحولت اندونيسيا فى تلك الفترة، فى ظل حركة الاصلاح سنة 1998 التى أطاحت بسوهارتو، الى الديمقراطية بنجاح كبير، فان مصر كانت تسير فى اتجاه تكريس الاستبداد وتوريث السلطة، واهمال سندنا الاستراتيجى فى اندونيسيا. ويكفى ان أدلل على ذلك بواقعتين الأولى اقتراح مصر فى مؤتمر عدم الانحياز المنعقد فى جاكارتا سنة 1992 الغاء الحركة لانتهاء الحرب الباردة، واعتراض اندونيسيا وباقى الدول الأعضاء على هذا الاقتراح. أما الثانية فهى أنه عندما دعت الرئيسة ميجاواتى الى عقد مؤتمر باندونج-2 فى سنة 2005 فى ذكرى مرور 50 سنة على انعقاد باندونج-1، دعت مصر الى مشاركتها فى الدعوة الى المؤتمر، ولكن لم يتم تلبية الدعوة ، وحضر المؤتمر وفد برئاسة أحد مساعدى وزير الخارجية ليجلس فى المكان الذى جلس فيه عبد الناصر سنة 1955. ومن ثم تأتى زيارة الرئيس السيسى لاندونيسيا لاعادة قوة الدفع الى العلاقات بين الدولتين، وهى أول زيارة يقوم بها رئيس مصرى الى تلك الدولة منذ ثلاثين عاما . عندما عدت الى مصر بعد زيارة جاكارتا عقب ثورة 30 يونيو، بتكليف من وزير الخارجية المصرى آنذاك نبيل فهمي، والذى كان يدرك أهمية شرح الموقف المصرى لشعوب آسيا، زاد اقتناعى بأهمية زيارة مصرية عالية المستوى لاندونيسيا. فقد لمست هناك الأرضية الرسمية والشعبية المناسبة لتلك الزيارة. على المستوى الرسمى كان الرئيس الاندونيسى سوسيلو بامبانج سباقا الى ردع نجيب رزاق، رئيس وزراء ماليزيا، عندما طلب الأخير مناقشة أحداث مصر فى جلسة طارئة لمنظمة المؤتمر الاسلامي، وأعلن سوسيلو تأييده لخطوات مصر لحماية أمنها، ورفض سحب الطلاب الاندونيسيين من مصر، فى ذروة الأحداث الارهابية بعد 30 يونيو. لمست أيضا التأييد الواسع من الاعلاميين الاندونيسيين فى جلسة موسعة فى مقر وكالة الأنباء الاندونيسية أنتارا. ولكن لمست الدور الذى قام به حلفاء الاخوان لترويج المعلومات الكاذبة. وفى جلسة مع لجنة الشرق الأوسط فى البرلمان قال لى أحدهم أن مئات الآلاف قتلوا فى رابعة دون تحذير. كنت جاهزا بفيلم تسجيلى عن أحداث رابعة والنهضة عرضته فى نهاية الاجتماع، أنهى الأكاذيب التى روجها حلفاء الاخوان.
سألنى أحد الأعضاء كيف تعزلون رئيسا قبل استكمال فترة رئاسته الدستور. قلت لهم لقد تعلمنا منكم. الم تعزلوا أنتم، وفى هذا المبنى الذى نتحدث فيه، رئيسكم السابق عبدالرحمن واحد قبل أقل من عامين من استكمال مدته الدستورية لما تبين لكم سوء ادارته للبلاد؟ المشكلة أنه لم يكن لدينا برلمان يقوم بهذه المهمة، فكلف الشعب المصرى جيشه تكليفا موثقا بالقيام بالمهمة.
ومن المؤكد أن زيارة الرئيس السيسى ، ستطرح اعادة قوة الدفع للعلاقات بين البلدين فى اطار مشاركة استراتيجية جديدة. فماهى العناصر المحورية التى يمكن أن تبنى عليها تلك المشاركة؟ . لعل أولها هى دفع التنسيق المصرى الاندونيسى فى مجال مكافحة الارهاب، وهى آفة مشتركة بين الدولتين بحكم وجود عدد من التنظيمات الارهابية فيهما، وثمة علاقات وثيقة بين تلك التنظيمات. أما ثانى تلك العناصر فهو اعادة التوازن الى العلاقات التجارية بين الدولتين حيث أنه فى سنة 2014 بلغ حجم الصادرات الاندونيسية الى مصر 1.34 بليون دولار مقابل 95 مليون دولار للصادرات المصرية، وذلك من خلال اعطاء الصادرات المصرية مزايا تفضيلية، مع السعى الى تنشيط الاستثمارات الاندونيسية فى مصر، وبالذات الاستثمار فى المشروعات المطروحة فى منطقة قناة السويس الجديدة، مع انشاء نظام مصرفى فعال لتمويل التبادل التجاري. أما ثالثها فهو التنسيق لانضمام مصر الى رابطة الآسيان كشريك حوار، وهو مايمنحها مزايا تفضيلية فى أسواق الدول العشر الاعضاء فى الرابطة. وهناك رابعا قضية زيادة دور المؤسسات التعليمية العامة والأزهرية فى اندونيسيا، وزيادة حجم المنح الدراسية الممنوحة للاندونيسيين. أما خامس تلك العناصر فهو تدشين اطار مؤسسى فى الدولتين لدراسة وفهم العلاقات بين الدولتين واقتراح آفاق تطويرها، وبالذات فهم ومقارنة عمليات التحول الديمقراطي، وأفكار التيارات التى ترفع شعار الاسلام السياسي. وفى هذا السياق يجب إنشاء مركز للدرسات المصرية-الاندونيسية يكون بمنزلة بوتقة لبناء جماعة بحثية مصرية اندونيسية. وأتصور أن يقوم رجال الأعمال فى الدولتين بإنشاء هذا المركز، والذى أؤكد أنه ستكون له انعكاسات ايجابية على مصالحهم التجارية.