رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

لمســــــة الفرعـــــون

لم كل هذه الضخامة ؟ لماذا حرص الفراعنة على بناء صروح هائلة؟ هل لتجسيد القوة والتمكن وتأكيد السلطة، بعد أن نجحوا فى ترويض النهر وتنظيم الجماعة البشرية المتحلقة حوله؟ أعتقد أن تحريك كل هذه الكتل الهائلة وتشكيلها وصفها بقوة وفقا لحسابات مذهلة لم نفك شفرتها الى الآن، قد شجعهم على تجاوز الهموم الخاصة بتسيير الحياة وتأمينها، لتأمل اسئلة أعمق تخص الزمن والفناء ومجاهيل العالم الذى لا نراه ، ولذا حرص الفنان الفرعونى على أن يضع اللحظات العابرة وتفاصيل الحياة والكائنات داخل سياق هندسى محكم ، ولم يعتبرها غاية فى ذاتها، انها روح حضارة التبسيط والاختزال والكتل الأبدية الواثقة ، التى تشى باحتدام العالم الداخلى وثرائه الروحي، ترك لنا الأجداد ارثا متفردا مادته التاريخ والوقائع والجسد، وخيال لعوالم وآلهة خلف عالمنا المرئي، ونحن ننحدر من هذا الأصل المعجزة.

هذه الصرحية وهذا الاستعراض الكبير للكتل والجداريات والمنحوتات جعلا الفن المصرى عاما بطبيعته، فحضوره مفتوح على المكان، وليس مادة للتأمل الخاص او للاقتناء الفردي، وقد سمح هذا الحضور الحاسم للمصرى القديم البسيط بالتعامل مع فن رفيع المستوى فى حياته اليومية، فمن يعيش بجوار الأهرامات أو يشاهد المعابد و المسلات منتصبة ولو من بعيد، يعيش فى حوار دائم مع ابداعات فريدة، مع نسب وانعكاسات وألوان وميول لا مثيل لها، وهذا دليل على فهم عميق لدور الفن العام فى الحياة اليومية وقدرته على خلق مشتركات للجماعة وتوحيد التجربة وتعميق الانتماء، وهو الدور الذى اقتبسه أفلاطون وهو يفكر فى جمهوريته، التى تتيح الفن للعامة وليس للنخبة وحدهم، فالفن فى المجال العام هو المرجعية الشعبية الكبيرة، وهو من يشكل الذاكرة الجماعية.

سأمر بسرعة على بعض الأمثلة لتفاعلنا كمصريين محدثين مع هذا الإرث المصرى الكبير، بداية بثالوث مبدع: المعمارى مصطفى فهمى الذى بنى ضريح سعد وغيره، والنحاتان أحمد عثمان ومنصور فرج، هذا الثالوث انجز العمل الرائع لمداخل حديقة الحيوان سنة 1936، وهو عمل رفيع المستوى، واستدعاء واع للتراث. وتداخل محكم بين تعاليم كلاسيكية وارث فرعونى رفيع. وفى 1928نصب مختار تمثاله الشهير نهضة مصر فى محطة مصر ثم نقل بعدها الى موضعه الحالى امام جامعة القاهرة سنة 1955. مختار كان يحاول بدوره استدعاء الكتلة الفرعونية واختزال التفاصيل ، فى معادلة صعبة بين الرسوخ وامكانية النهوض والحركة .

وفى 1975 اكمل الفنان سامى رافع بناء نصب الجندى المجهول بمدينة نصر ، وهو هرم مجوف تتجه اسطحه للداخل والخارج فى آن، يحمل اسماء رمزية لشهداء معارك لم نتمكن من التعرف عليهم ، ولكن لا اعرف لماذا تم دفن السادات فيه وهو رئيس جمهورية معلوم للجميع. فى هذه الأعمال رغم تباين مستوياتها، يتم استدعاء التقاليد الفرعونية عبر تفاعل خلاق وفهم لطبيعة اللحظة.

على الجانب الآخر ، لدينا تاريخ آخر من الاستدعاء البائس لتراث الأجداد، ومازلت اتذكر مسلة بالغة القبح وضعت فى عصر مبارك تخليدا لإنجازاته امام كوبرى الجلاء وكانت مصنوعة من الجبس الأبيض وبعد ان انهالت مقالات غاضبة على المسلة ، تمت إزالتها بما عليها من نحت بارز للرئيس نفسه، أما مبنى المحكمة الدستورية فهو أشبه بمحاكاة كرتونية للمعابد الفرعونية وكأننا فى ديزنى لاند، ناهيك عن رأس نفرتيتى المشوه الذى وضع فى مدخل مدينة بصعيد مصر، ونظرا لأن التمثال كان بشعا ولا يمكن السكوت عليه قام السيد اللواء رئيس المدينة بإزالته مرغما.

ومع الاحتفال بافتتاح قناة السويس الجديدة ، فوجئنا بعودة الفراعنة مجددا على نحو متعجل، فى منحوتات كانت تستوجب التأنى نظرا لضخامتها وتكاليفها، ولكنها بدت وكأننا نعيد انتاج تماثيل الفاشية، ككتل فجة من رموز بلا ضابط ولا إيقاع ولا تشكيل، فى المنحوتة الأكبر، هناك امراة مجنحة، ولكن لا علاقة لجسدها بالأجنحة، ولا بتماثيل ابى الهول، وكل ذلك منصوب فوق قاعدة تشبه دورات المياه العمومية، الكتلة فى مجملها لا علاقة لها بالفراغ المحيط بها، وكأنها حجر سقط هناك فجأة ، ونأمل أن يأتى من يزيحه عن أعيننا يوما ما. ولا اعرف أيضا لما ظهر الفراعنة على هذا الحال البائس فى ذلك الفاصل من أوبرا عايدة، هل هو التعجل الذى أصبح مسيطرا الآن على مجمل الأداء؟ أستطيع أن أتفهم كيف نزع المصريون رقصة التنورة من سياقها الصوفى والروحى وحولوها الى عرض صاخب وملون للمهارة، انها ابتكارات شعبية وتعديلات لماحة تظهر الطابع الاحتفالى للدوران، بعيدا عن تأمل الحركة الابدية للكون أواستدعاء ألم الفراق والبحث عن التوحد بالمطلق، انها تنورتنا الشعبية التى تعيد انتاج دورة جلال الدين الرومى بطريقتها، كرقصة للفرحة الجماعية، نفس البراعة سنجدها عند صناع الخيامية العظام الذين نجحوا عبر إعادة تدوير قصاصات القماش فى انتاج ابداعات الزخرفة الإسلامية بعد تخليصها من تعقدها البالغ واضفاء مذاق خاص يتفق مع حلولهم الخشنة، انه ابداع شعبى يدرك حدوده وينفذ بذكاء الى مناطق تخصه فى التعامل مع موروث قديم رفيع المستوى.

أين تلك المهارة الشعبية بالغة الذكاء، من اللمسة الفرعونية التى نستدعيها الان كثيرا بلا مبرر، اللمسة الفرعونية التى لم تعد إشارة الى ماض مجيد ، فهذا لا يتبدى فعلا، وانما أصبحت وهذا هو المدهش بيانا عمليا على مدى تخلفنا وفوضانا وفقر خيالنا بل وعلى تبجحنا أحيانا.


لمزيد من مقالات عادل السيوى

رابط دائم: