رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

حين تغضب دولة الموظفين

هناك امتعاض، وتذمر، واحتجاج فى أوساط الموظفين الحكوميين من قانون الخدمة المدنية الجديد رقم (18) لسنة 2005م، ويعزو البعض ذلك إلى ضعف الحوار، وتهيئة الأجواء، والنقاش الكافى قبل إصدار القانون، ونشره فى الجريدة الرسمية فى 12 مارس الماضي، مما غذى المخاوف السلبية لدى موظفى الدولة تجاه القانون. وهو كلام فى ظاهره براق، تتشدق به نخب احتجاجية، لكنه عمليا غير صحيح، ليس بسبب ما تقوله الحكومة من أنها نظمت نقاشات وحوارات قبل إصدار القانون، ولكن الأهم فى رأيى أن دولة الموظفين، بثقافتها وتشابكاتها المصلحية، لم تكن تقبل صدور قانون ترى أنه يحرمها من امتيازات مقررة لها، ولا يمنحها المزيد، إذ لم تخرج انتفاضة الموظفين عن أحاديث مصلحية بحتة، تتعلق بالحوافز، واحتساب رصيد الاجازات، والأجور، الخ، دون الخوض فى بنود القانون الأخرى التى من المفترض أن تسهم فى رفع كفاءة الجهاز الإداري. والطريف، أن الموظفين يعتبرون أنفسهم شركاء فى شركة خاصة كبرى تديرها الحكومة، لا يجوز لها أن تتخذ قرارا دون العودة لهم، وهو ما يكشفه تصريحات صدرت على لسان بعض العاملين بمصلحة الضرائب بأنهم يحققون 422 مليار جنيه سنويا فى ميزانية الدولة، ولا يحصلون على ما يناسبهم، وهم بذلك يرون أنفسهم شركاء فى «شركة مساهمة»، وليسوا موظفى خدمة مدنية فى جهاز إداري، رغم أن العاملين فى الضرائب يحصلون على حوافز مرتفعة مقارنة بغيرهم من العاملين فى الجهاز الحكومي.

يمثل القانون نقلة نوعية مهمة فى الإصلاح الإدارى فى بلد، تشكل البيروقراطية الحكومية عقبة كؤود أمام جهود التنمية، وتتحطم على صخرتها محاولات كثيرة لتقديم خدمات أفضل للمواطن. يعيد القانون فى عنوانه المعنى الغائب وهو «الخدمة المدنية»، التى تمثل الوظيفة الأساسية للبيروقراطية فى الدولة الحديثة - خدمة المواطن، وليس مثل سابقه قانون تنظيم العاملين المدنيين بالدولة، وحفل القانون بمصطلحات حديثة مثل النزاهة، الشفافية، الموارد البشرية، ثقافة الخدمة المدنية، ويأخذ بفكرة الوكيل الدائم للوزارة لمعاونة الوزير (المادة 10)، وهى التى تمهد السبيل لاختيار الوزير على أساس سياسي، وليس بيروقراطى أو فني، باعتبار أن الوكيل الدائم هو من يدير الدولاب الإدارى والفنى للوزارة، وتنحصر مسئولية الوزير فى المسئولية السياسية، والسياسات العامة، والتوجهات الاستراتيجية، ويوفر القانون إمكانية استعانة الجهاز الإدارى بذوى الخبرات من التخصصات النادرة (المادة 18)، وهذه الكفاءات الفنية التى تنهض، وتطور، وتنقل ثقافة متقدمة فى المؤسسات الحكومية، هذا إلى جانب تقييم الأداء للموظفين، باعتباره أساسا مهما للترقي، وشغل المواقع القيادية، والإثابة فى الجهاز الإداري، ويتضمن القانون انشاء «مراكز تنمية الموارد البشرية» (المادة 7) بقصد تدريب وتأهيل وإعداد الموظفين، وهى مسألة أساسية، فى الجهاز الإدارى الذى يحتاج باستمرار إلى كوادر مهنية مدربة على نطاق واسع.

الإشكالية الحقيقية أن القانون يصطدم بالثقافة الإدارية التى تربت عليها البيروقراطية، وتغذت عليها. تاريخيا، لم تر البيروقراطية المصرية نفسها «خدمة مدنية»، بقدر ما رأت نفسها صاحبة ولاية على المجتمع، وممثلة للحكومة، ومانحة خدمة للمواطن، ومن الطبيعي، أن تنتفض ضد أى محاولات لتغيير علاقة «السيد بالتابع» التى تربطها بالمواطن، وهى ترى نفسها وكيل الحكومة وأداتها التنفيذية. ولم تر دولة الموظفين نفسها إلا فى دواوين الحكومة، تستدفئ بسلطتها فى مواجهة المجتمع، وتمارس من خلال هذه العلاقة الاستعلاء على المواطن. إنه سحر «الميري»، الذى تناوله المؤرخون، والأدباء، الذى جعل الناس تبحث عن «الأمان» فى الوظيفة الحكومية، إلى حد شرائها بالواسطة، أو بالرشاوى، والهدايا، المهم أن يكون الشخص موظفا حكوميا، يضمن راتبا، ومعاشا، وحوافز، ولا يحاسب على سوء الانتاجية مثلما يحاسب نظيره فى القطاع الخاص، ولسنوات طويلة قبل الموظف أن يحصل على راتب متدن، ليس لسبب إلا الأمان الوظيفي، والتسامح مع الفساد الصغير الذى يقوم به، فى الوقت الذى زاد فيه بشدة اختلاف الحوافز وشروط العمل داخل الجهاز الإداري، مما جعل هناك مؤسسات حكومية «شمال» وأخرى «جنوب»، وظهرت هناك طبقية من نوع خاص فى الوظائف العامة، مما تطلب تدخل القانون الجديد فى تحقيق العدالة الوظيفية من خلال توحيد نظام الحوافز أو تنظيمها بشكل منضبط.

القانون الجديد، الذى يصادف اعتراض موظفين يريدون وراثة الدولة لا خدمة أهدافها فى التنمية، يمثل خطوة على طريق الإصلاح الإداري، ويعلم باحثو ودارسو الإدارة العامة أن الأفكار التى انطوى عليها القانون جيدة، وحديثة، لكنها جاءت متأخرة، وكان ينبغى أن يصدر هذا القانون منذ عقد أو يزيد، لكنه على أية حال صدر، أتمنى أن تستتبعها مراجعة التشريعات التى تحكم عمل الأجهزة الحكومية، وتنقيتها من التضارب، والثغرات التى تسمح بالفساد، وتعميق الشفافية، والتوسع فى استطلاع رأى الجمهور متلقى الخدمة، ومشاركتهم فى مساءلة الموظفين مقدمى الخدمة، ووضع قواعد لإنجاز الخدمة فى الجهاز الحكومى فى وقت معين، مع مراعاة قواعد التعامل الإنسانى والمواطنة، على النحو الذى أخذت به دول أخرى فى الإصلاح الإدارى مثل البرازيل. الطريق طويل وممتد، لكن من الضرورى البدء فى تفكيك ثقافة دولة الموظفين.


لمزيد من مقالات د. سامح فوزى

رابط دائم: