رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الكل يجب محاسبته

العنوان السابق هو مجرد تحوير للعبارة التى قالها أحد اقارب ضحايا مركب الوراق التى غرقت نتيجة اصطدامه بأحد الصنادل المُحملة بالحديد، وأصل العبارة هى «الكل لازم يتحاسب»، والعبارة تعكس إدراكا لحظيا وفطريا بأن هناك مسئولية مشتركة بين أكثر من طرف وأدت إلى هذا الحادث المأساوى، وبالفعل توجد هذه المسئولية ولكن بدرجات مختلفة موزعة بين مالك المركب الذى لا يهتم سوى بجمع الأموال وليس لمركبه أوراق رسمية أو صيانة دورية، وسائقه المهمل الذى حاول التسابق مع صندل نهرى ضخم يفوقه قدرة وطاقة ولم تسعفه قدرات مركبه المتواضعة فى التغلب عليه، وربما سائق الصندل الذى أقر بأنه قام بإطلاق التحذيرات مرة تلو آخرى غير أن أصوات الأغانى العالية لدى المركب المنكوب حالت دون التنبه لخطورة الموقف. أما شرطة المسطحات المائية وهيئة النقل النهرى فكلاهما يتحمل جزءا من المسئولية وإن كان يمكن القول أن القوانين البائسة والسارية المفعول لا تسعفهما فى السيطرة على ما يجرى فى النهر، أما المواطنون العاديون وإن كان لبعضهم عذر قهرى فى استخدام وسائل نهرية يعرفون مسبقا أنها متهالكة وخطرة ولكن لا بديل لها، فهم أيضا مسئولون وضحايا فى الآن نفسه. وهم مسئولون بالقدر الذى يتعاملون فيه مع النيل وكأنه غنيمة تستحق الهدر، وضحايا لأنهم مضطرون أحيانا للمخاطرة بحياتهم من أجل متعة بريئة فى مركب متهالك ولكن رخيصة نسبيا، أو من أجل مواصلة نهرية لا بديل عنها. وفى تجربة شخصية قبل عقد من الآن شهدت بأم عينى كيف تسير معدية نهرية فى منطقة تتبع محافظة المنيا، وعليها كم من البشر والسيارات والبضائع، وسائقها فتى فى حدود سبعة عشر عاما، يقود المعدية بواسطة حبل نظرا لأن قطع غيار موتور المعدية القديم غير موجودة بالسوق. والمهم أن تتحرك المعدية وكفى، والناس معذورة ومضطرة.

أما الحكومة بشكل عام فتنحصر مسئوليتها فى عدم إيلاء نهر النيل الاهتمام الكافى وترك أموره معلقة فى الهواء ولا يأتى التحرك شبه الجاد إلا فى لحظات المأسي والكوارث المروعة.وإذا كان تحديد المسئولية الجنائية وحجم الخطأ ومن ثم مقدار العقوبة هو شأن النيابة العامة والقضاء، فإن مسئولية الناس أو المواطنين العاديين أنفسهم على مثل هذه الحوادث تتعلق بما هو أكبر من القوانين والتشريعات، والتى مهما كانت رادعة وتقضى بعقوبات جسيمة، فإنها تظل بلا معنى أو فائدة تذكر إذا تهرب من تطبيقها المسئولون عنها، أو تحايلوا عليها من خلال النفاذ من الثغرات التى عادة تكون موجودة فى أى تشريع. والمسألة هنا تتعلق أساسا بثقافة عامة وشائعة بين أوساط عديدة قوامها أن من يمكنه فعل شئ بعيدا عن أعين الحكومة فليفعل وهو مطمئن. وفى غالب الأحيان فإن أطرافا محسوبون على الحكومة هم الذين يسمحون بتجاوز القانون والإفلات من العقاب.

لقد هالنى ما قاله أحد ضباط شرطة المسطحات المائية من أنهم يقومون بعملهم وفقا للقانون ويغلقون المراسى النهرية غير المرخصة ويمنعون المراكب التى تعمل بدون رخصة ويوقفون الكثير من سائقى هذه المراكب نظرا لعدم تأهلم ولعدم حصولهم على الرخص المطلوبة، ولكنهم يفاجئون فى اليوم التالى أن أجهزة محلية تابعة لمحافظة الجيزة تحديدا تمنح هؤلاء الحق فى العودة إلى العمل حتى بدون توقيع أى عقوبة وبدون أى رخص قانونية مكتملة، وكأن الجهة الإدارية المحلية فى وادى والشرطة المعنية فى وادى آخر. وإذا كان جزء من تغييب القانون عمدا يعود إلى فساد جهات محلية وتحالفها مصلحيا مع أصحاب الأعمال، فمن الصعوبة بمكان أن ننتظر ضبطا لحركة الملاحة النهرية، وسيكون طبيعيا أن ننتظر حوادث أخرى مؤلمة ومروعة كحادثة الوراق.

المشكلة هنا تتعلق بتطبيق القانون بالدرجة الأولى، وهو تطبيق لن يكون فعالا إذا استمرت حالة المكايدة الغير شريفة بين الجهات المعنية وبعضها البعض. ومع افتراض أن اللجنة التشريعية التى يرأسها السيد رئيس الوزراء والمعنية بإعادة النظر فى القوانين المنظمة للملاحة النهرية وبحماية نهر النيل قد انتهت بعد فترة طالت أم قصرت إلى تغليظ العقوبات للمخالفين ووضع قواعد اكثر صرامة وانضباطا لحركة الملاحة النهرية، فستكون خطوة جيدة بشكل عام، أما تأثيرها على الأرض فلن يظهر إلا إذا تم ضبط العلاقة بين الجهات المختلفة القائمة على تنفيذ هذه القواعد القانونية، وإيجاد سلطة واحدة فقط تقوم على تطبيق هذه التشريعات ولها بنية بشرية مدربة ومشهود لها بالكفاءة وذات ضمير حى، على أن تتمتع هذه الهيئة أو السلطة الموحدة بحق الإشراف على مجرى النهر وضبط أوضاعه وحمايته من أى تعديات أو مخالفات من أوله إلى آخره.

إن وجود أكثر من جهة تتعلق بوظيفة واحدة، وهى ضبط نهر النيل والملاحة فيه وحمايته من التعديات المختلفة، يمثل عقبة كبرى ويسمح بالفساد وبالضرب عرض الحائط بالمصالح العليا للمصريين جميعا وهى الحفاظ على مصدر الحياة الأول لنا جميعا. وفى المقابل فإن وجود سلطة أو هيئة تختص بنهر النيل وبكل الانشطة المختلفة المرتبطة من ملاحة ونقل نهرى وسياحة والصيد وتربية الأسماك وغيرها من شأنه أن يحدد المسئولية وأن يجعل تنفيذ القانون أكثر انضباطا وفعالية.

لقد روعتنا كارثة مركب الوراق بالفعل، ولعلها تكون بداية لإدراك حجم الإهمال واللامبالاة الذى نتعامل به مع نهر النيل. وفى الوقت الذى تعانى وتجتهد فيه جهات حكومية مختلفة فى المفاوضات الخاصة بسد النهضة الاثيوبي حفاظا على حقوق مصر ومصالحها فى تدفق حصتها من مياه النيل بسلاسة وبدون قيود، فإن السلوك اليومى لغالبية المصريين لا يرقى إطلاقا لقيمة النهر فى حياتنا، ولا يتناسب مع حجم المشكلة التى تعانيها بلادنا بالنسبة للفقر المائى الذى وصلنا إليه بالفعل منذ عدة سنوات، وكثير من المصريين لا يقدرون التداعيات الخطيرة لتدنى حصة الفرد المائية عاما بعد آخر، والتى سوف تتأثر سلبا وحتما بعد اكتمال بناء سد النهضة. وإذا كانت الحكومة مازالت مقصورة فى البحث عن سبل آخرى لزيادة الموارد المائية خاصة إقامة محطات لتحلية مياه البحر، فإننا كشعب مقصرون فى ترشيد استخداماتنا المائية. وهما تقصيران شديدى الخطورة لأنهما يتعلقان بوجود الحياة واستمراريتها على الأرض المصرية.


لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب

رابط دائم: