جزءًا منك ليس فيك، فهو قطعة منك، ليس ذلك الصديق الذي يماسحك كما يماسحك الثعبان، ويراوغك كما يراوغك الثعلب أو يقبع منك كما يقبع القنفذ، فهؤلاء الأصدقاء لا تجدهم إلا علي أطراف مصائبك، فهم كالذباب لا يقع إلا حيث يكون العسل.
إن الصديق الحق الذي نبحث عنه ، هو من قال عنه الإمام الشافعي ( رحمه الله ) :
إن الصديق الحق من كان معك .
ومن يضـــــــــر نفســـــه لينفعـــــــــك .
ومن إذا ريب الزمـــان صدعـــــك .
شتت نفســـــــه فيك ليجـــــمعك .
لا هذا الذي قال عنه الشاعر القاضي العماني أبو سرور :
مالي أراك وأنت كنت صديقي
باعدتني زمنا بكل عقـــــوق
قد كنت من أعددته لنوائبــي
لو عضني ناب الزمان بضيق
أوحي إليك بأن دهري عقني
فطفقت أنت تعين بالتصفيق
ومتي تبينت الحقيقة أننـــــــي
جللا حللت بمنصب مرموق
قد جئتني تسعي تهنئ بالمني
عجبًا لأمرك في رضًا وعقــوق
إن المحبة في الفـؤاد مكانهــا
تبدو حقــائقــها مع التضييق
وقد قيل لأحدهم: من أصدقاؤك ؟ فقال: لا أعلم، قيل له: لماذا ؟ قال : لأن الدنيا مقبلةٌ عليّ ، فإن أدبرت عرفت عدوي من صديقي، لأن أكثر الناس يدورون مع الزمان حيث دار، فإن كان معك كانوا معك، وإن كان عليك كانوا عليك، ولذا قالوا: الصديق وقت الضيق، وقال الشاعر:
جـــزي الله المصـــــــائب كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
وقال آخر :
رأيت الناس قد ذهبوا إلي من عنده ذهبُ
ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا
رأيت الناس منفضة إلي من عنده فضة
ومن لا عنده فضــة فعنه الناس منفضة
رأيت الناس قد مالوا إلي من عنده مالُ
ومن لا عنده مــــــال فعنه الناس قد مالوا
وقال الآخر:
يُحيّا بالسلام غني قوم ويبخل بالسلام علي الفقير
أليس الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور
إن الصديق مشتق من الصدق، فهو من يصدقك في السر والعلن، في البأساء والضراء، في المنشط والمكره، من يحب لك ما يحبه لنفسه، ويكره لك ما يكره لنفسه، يقول نبينا (صلي الله عليه وسلم ): لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّي يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ( رواه البخاري )، ويقول: ( صلي الله عليه وسلم ) ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ (رواه البخاري)، ويقول صلي الله عليه وسلم: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ : إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبادة الله تعالي، ورَجُلٌ قَلْبُه مُعَلَّقٌ بالمساجد، ورَجُلانِ تَحَابَّا في الله: اجْتَمَعَا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورجلٌ دَعَتْه اْمرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ فقال: إِني أَخاف الله ، ورجلٌ تصدَّق بصَدَقَةٍ، فأَخْفَاهَا حتِّي لا تَعْلَمَ شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه، ورجلٌ ذكر الله خالياً، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ .
وروي أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَي ، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَي مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا ، فَلَمَّا أَتَي عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ (رواه مسلم)، وفي الحديث القدسي: وَجَبَتْ مَحَبتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ (مسند أحمد)، ويقول نبينا ( صلي الله عليه وسلم) الْمُتَحَابُّونَ فِيَّ اللَّهِ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَغْبِطُهُمُ الشُّهَدَاءُ (المستدرك علي الصحيحين)، فما أجمل أن تكون العلاقات والصداقات خالصة لوجه الله عز وجل، قائمة علي الحب والمودة والإنسانية والإيثار، مبنية علي المروءة والقيم والأخلاق السوية، بعيدًا عن كل ألوان الأنانية والنفعية والانتهازية المقيتة.