الأول هو الزعم بتحرى البحث عن تفسير لهذه العمليات الإرهابية فى أزمات المجتمع والدولة، والثانى هو التهرب الدائم من وصفها أو من يقومون بها بالإرهاب، واستخدام مصطلحات أخرى بالرغم من استخدام بعض عبارات الإدانة لها أحيانا.
فأما عن الملمح الأول، فقد استند إلى مزاعم الموضوعية فى تلك الكتابات والمواقف، حيث يطرح أصحابها دوماً أسئلة تحتمل كل الإجابات عن الأسباب التى أدت إلى تلك العمليات الإرهابية، وهم ينحازون دوما أيضا إلى الإجابات التى تختلط فيها الأوراق ولا يبين منها موقف أخلاقى أو وطنى فى مواجهة هذا الإرهاب. ومن بين الإجابات الشائعة الغائمة فى تلك الكتابات والمواقف لتفسير تزايد العمليات الإرهابية ببلادنا بعد إسقاط حكم الإخوان، أن الأزمة السياسية الناتجة بعده و«تجاوزات» أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية هما المفسران الوحيدان لهذا التزايد. وتكون النتيجة المنطقية لهذه الإجابة، حتى لو لم يعلنها أصحابها صراحة، هى أن الإرهاب هو رد فعل «الضحايا» و«المظلومين» تجاه من قمعهم أو ظلمهم، فلا يبقى لدى القارئ أو المشاهد أو المستمع غير أن يبدى تعاطفه مع القائمين به. فحسب هذه الإجابة، الإرهابيون هم إما متمردين على أوضاع اجتماعية واقتصادية بائسة ظلموا بها سنوات طوال من حكوماتهم، أو رافضين لاستبعاد جماعة من الحكم وقمعها وأعضائها بعد ذلك.
فى هذه الإجابة لا يوجد أثر للأفكار أو الرؤى أو التعليمات التى تدفع إلى الإرهاب، فهو مجرد رد فعل تلقائى تجاه الظلم والقمع. فى هذه الإجابة تختفى آلاف الصفحات وساعات الحديث والخطابة التى تتضمن المسوغات التى يقدمها شيوخ الإرهاب وقادته الفكريون للشباب باعتبارها التبرير الشرعى للإرهاب، والتى تفسر قيامهم وحدهم، وهم أعضاء الجماعة أو تحالفها، من بين ملايين الشباب المصريين المظلومين أو المستبعدين بالإرهاب والعنف. هذه الإجابة لا تفسر لنا أبدا لماذا يقتصر القيام بالعنف واللجوء للإرهاب على هؤلاء الأعضاء، قطاعات منهم وليس جميعهم، ولا يمتد إلى بقية المصريين من شباب أو كهول. وفى هذه الإجابة لا يبدو الإرهاب فقط مبررا ومعذور أصحابه فقط، بل يبدو السبيل الوحيد لاستعادة الحق بيد الضحايا ورفع الظلم بيد المظلومين، فهكذا تنطق السطور حتى لو لم يصدر عن أصحابها هذا صراحة.
أما الملمح الثاني، وهو التهرب الدائم من وصف من يقومون بتلك العمليات الإجرامية بالإرهاب واستخدام مصطلحات أخرى بالرغم من استخدام بعض عبارات الإدانة لها أحيانا، فهو امتداد طبيعى للملمح الأول، فالاثنان يصبان فى هدف واحد وهو تبرير ما يحدث من أعمال إرهابية إجرامية، مرة بتغطيتها بتفسيرات تمنحها المشروعية ومرة بإطلاق مسميات عليها تؤكد هذه المشروعية وتزيح عنها اسمها الحقيقى المقيت: الإرهاب. وهنا تظهر ترسانة طويلة من المسميات التى تطلقها تلك الطائفة من الكتاب والإعلاميين على عمليات الإرهاب والقائمين بها، وتبدأ بالمصطلح الشهير لقنوات الجزيرة: «رافضو الانقلاب»، ثم «المتظاهرين»، وبعده «المحتجون»، وغيرها من مسميات كلها توحى بسلمية هؤلاء وأنهم مفترى عليهم ولم يرتكبوا شيئا مما هو منسوب إليهم من عمليات إرهابية. وأما العمليات نفسها فهى أيضا تتخذ مسميات أخرى محايدة لدى تلك الطائفة، فتكون أحيانا «عمليات عنف» أو «هجمات» أو «تفجيرات» أو «اشتباكات» أو «اعتداءات» ولكن من قوات الأمن المصرية!
ولا يقف أصحاب تلك الكتابات والمواقف الإعلامية عند هذين الملمحين المتعلقين بمضمون المعالجة فى تناولهم، أو على الأصح تجاهلهم، لظاهرة الإرهاب المتنامية التى تضرب بلادنا اليوم بصورة غير مسبوقة فى تاريخها كله، بل يضيفون إليهما ملامح أخرى فى شكل المعالجة تؤكد توجهاتهم ونواياهم. فمن ناحية يكتب هؤلاء أو يتحدثون بصورة منتظمة عن قضايا بعينها تحتل ما يزيد عن 90% مما يكتبون أو يقولون، ولا يأتى الإرهاب على الرغم من تصاعده محلياً وإقليمياً ودولياً سوى ضمن العشرة فى المائة الباقية مع قضايا أخرى. أما الـ 90% من الاهتمام فهى دوما موجهة إلى كل ما يصدر عن الدولة من سياسات وإجراءات وتشريعات بما فيها تلك الموجهة للإرهاب، ويكون دوماً المنظور النقدى والهجومى هو المسيطر على ما يكتب أو يقال، بعكس الرأفة و«الموضوعية» التى تهيمن على الكتابات والأقوال النادرة عن الإرهاب. أى أن أصحاب تلك الكتابات والمواقف يسيرون فى توزيع اهتماماتهم مع الملمح الأول المتعلق بمضمونها، حيث يبدو الإرهاب قليل الحضور بالمقارنة مع «أخطاء» و«خطايا» الدولة التى تمثل الـ 90% المشار إليها، فيصبح منطقيا أن يكون الإرهاب «نتيجة» مبررة لما تقوم به الدولة وليس «سبباً» لما تتعرض له ومواطنيها.
من ناحية أخرى، يعمد أصحاب تلك الكتابات والمواقف إلى الاستعانة فيما يكتبون عن الإرهاب، الذى لا يسمونه هكذا، ولتأكيد رؤيتهم فى أنه «نتيجة» وليس «سببا»، فى معظم الأحيان ببيانات وإحصاءات تؤكد أن «استبداد الحكم» هو السبب الحقيقى لما يجري، تكون مصادرها دوما هى إما مؤسسات مصرية محسوبة تماماً على الإخوان وتحالفهم أو أجنبية لها حساباتها ومصالحها وعلاقاتها التى تضع شكوكا كبيرة حول صدقيتها. وليس هذا هو المهم، ولكن الأهم هو أن هؤلاء يتجاهلون بصورة فجة أى بيانات تصدر عن أى هيئات أو مؤسسات كانت، رسمية أو غير رسمية مصرية أو غير مصرية، تتعلق بعدد العمليات الإرهابية أو بعدد ضحاياها من الشهداء والجرحى أو بالخسائر المادية التى تؤدى إليها. ولا تأتى الإشارة لمثل هذه الإحصائيات سوى فى سياق متعمد يراد منه «تخويف» المجتمع والدولة من العمليات الإرهابية، بحيث تبدو واضحة دعوتهم الضمنية لهما للاستسلام لها. ومن نافلة القول ملاحظة أن هؤلاء أيضاً يجدون غضاضة كبيرة فى استخدام مصطلح «الشهداء» أو حتى «الضحايا» لوصف من يفقدون أرواحهم من أبناء الشعب والجيش والشرطة أو يصابون من جراء العمليات الإرهابية، ويظل الجميع بالنسبة لهم «قتلى»، القاتل فيهم كالمقتول بدون أى تمييز موضوعى أو أخلاقى بينهما.
من ناحية أخيرة ودائما فى شكل المعالجة، يتجاهل أولئك الكتاب والإعلاميون المقارنة بين ما يجرى فى بلادنا وغيرها من بلاد العالم، سواء فيما يتعلق بالعمليات الإرهابية، أو ما يتعلق بما لم يحدث لدينا فى بعضها من تداعيات هائلة لها بما فيها تفكك المجتمع والدولة. فأعينهم مركزة فقط وبطريقتهم المعوجة المنحازة على ما يريدون تقديمه مما يجرى ببلدنا بعد تأويله ولى عنق كل حقيقة تتعلق به، لكى يأخذ فى النهاية الصورة التى يريدون إسباغها عليه: «تظاهر» أو «عمليات عنف» يقوم بها «رافضو الانقلاب» أو «المظلومين» بسبب «استبداد الدولة وطغيانها وظلمها»، أما الإرهاب الذى يسبق لنا أو لدول المنطقة أن رأيناه، فهو بالنسبة لهم محض خيال أو أضغاث أحلام نراها ونحن يقظى.
استقيموا يرحمكم الله.