وخطاب كاميرون كان ايجابيا جدا، لكن ربط كل ظاهرة سلبية ومن بينها التطرف بفكرة عجز المسلمين فى بريطانيا عن الاندماج فى المجتمع، يكرر الصورة النمطية الجاهزة السلبية عن المسلمين. هذه الصورة باتت ندبة، لكنها فى الحقيقة ليست صحيحة. فهناك مشكلة اندماج عموما فى بريطانيا، مثل الكثير من الدول الأوروبية وامريكا. لكنها لا تخص المسلمين وحدهم، فالبريطانيون من أصول إفريقية أو آسيوية يواجهون ايضا مشكلات فى الاندماج. كما أن هناك مشكلة تطرف، لكنها لا تخص المسلمين وحدهم، فهناك تطرف يهودى وسيخى ومسيحى ايضا". محمد شفيق أحد قادة الجالية الإسلامية فى بريطانياــ شفيق، وهو من أصول آسيوية ــ يدرك جيدا مشكلات اندماج المسلمين، خصوصا ذو، الأصول الآسيوية فهم أقل اندماجا مثلا مقارنة بالمسلمين من أصول شرق أوسطية، لكنه يوضح أن "إلقاء الكرة كليا فى ملعب مسلمى بريطانيا فى تحدى محاربة التطرف، لا يساعد على الاندماج. فالاتهامات الضمنية أننا لا نفعل ما فيه الكافية، وأننا مقصرون، وأننا صامتون. لكن كل هذا ليس حقيقيا ويعزز شعور الكثيرين بالعزلة والحصار".
تشعر بريطانيا بقلق أكثر ربما من دول أوروبية أخرى، فهناك نحو 700 بريطانى وبريطانية توجهوا للقتال إلى جانب صفوف "داعش" فى العراق وسوريا. وهذا الرقم يزداد كل يوم. والإحصاءات تشير إلى أن غالبية من يحاربون إلى جانب داعش ينتمون للشريحة العمرية بين 20 إلى 30 عاما، وهذا يعنى أن هناك مشكلة لدى الأجيال الجديدة بالذات فيما يتعلق بالتطرف والاندماج. وفى خطابه أمس الأول تحدث كاميرون عن فضيحة ما سمى بـ"حصان طروادة" التى وجهت فيها الاتهامات إلى عدد من المدارس فى مدينة برمنجهام البريطانية بنشر وترويج الأفكار الراديكالية وذلك بعدما سيطر عليها متطرفون وأداروها لنشر أفكار تمجد العنف، والنقاء الديني.
مصدر الخوف الرئيسى فى بريطانيا من أزمة مدارس برمنجهام أو "حصان طروادة" الإسلامي، هو تهميش فكرة الدولة القومية فى بريطانيا. فالدولة فى نظر الكثير من هؤلاء المتورطين فى أزمة مدارس برمنجهام "ليست مصدر القوانين العامة". وكل جماعة دينية أو عرقية أو ثقافية بهذا المنطق لها قوانينها الخاصة التى تتماشى مع نظامها العقائدي. وفى بريطانيا مثلا ورغم تجريم الختان وزواج القاصرات، إلا أن آلاف الحالات تسجل كل عام لانتهاكات فى هذا الخصوص.
ويقول كاميرون إن "الدولة القومية" فى بريطانيا هى نفسها فى خط النار الآن. فتنظيم الدولة الاسلامية فى العراق والشام لا يعترف بفكرة الدولة القومية، وأفكاره حول دولة دينية أو دولة خلافة بلا حدود أو قانون وضعى اجتذبت حتى الآن عشرات الآلاف من المقاتلين الأوروبيين والعرب والآسيويين.
وأمام خطر التطرف والراديكالية فى الداخل والخارج وضعت الحكومة البريطانية استراتيجية من 4 ركائز لمواجهة التطرف، من بينها محاربة الايديولوجيا بإيديولوجيا اخرى مضادة أكثر جاذبية. فديفيد كاميرون يرى أن القيم "الليبرالية" البريطانية، قيم الحرية، سواء حرية المعتقد، أو الرأى والتعبير والمساواة والعدالة واحترام حقوق الانسان والديمقراطية والتعددية، هى "أفضل سلاح" ضد التطرف وضد تجربة الدولة الاسلامية فى العراق والشام. فهذه التجربة التى تصور على مواقع التواصل الاجتماعى على أنها "نمط حياة ثورى راديكالى نقي"، هى فى الواقع نقيض ذلك. فالحقيقة أن المئات من مقاتلى داعش، نساء ورجال، تم إعدامهم على يد التنظيم عندما حاولوا الهروب والعودة إلى بلادهم.
وإلى جانب "حرب الأفكار" اقترح كاميرون برنامجا لإعادة تأهيل المتطرفين، والتصدى للأفراد و التنظيمات الداعية للكراهية والعنف، واتخاذ تدابير جديدة لحماية المراهقين والشباب من التطرف وذلك عبر قيام المدارس والمعاهد بمراقبة الطلاب لملاحظة أى ميول تطرف. كما كشف كاميرون النقاب عن خطة تمكن الاباء من التقدم بطلب للحكومة لسحب جواز سفر أبنائهم إذا كانت هناك شكوك أنهم يعتزمون السفر إلى العراق وسوريا.
لكن يظل الركن الأساسى فى استراتيجية كاميرون هو "الاندماج". ليس فقط اندماج المسلمين، بل الاقليات عموما. فهناك مجتمعات مغلقة على نفسها على أساس الدين او العرق او اللغة. والإحصاءات فى بريطانيا تظهر أنه إذا كان هناك جماعة دينية أو عرقية أو لغوية منغلقة على نفسها فى مدينة منطقة سكنية معينة، فهذا يعنى على الأغلب أن المدارس أيضا منغلقة وكذلك المراكز الخدمية، والدينية والترفيهية.
ولا تقترح الحكومة البريطانية حلا لهذه المشكلة بإعادة توزيع السكان «مناطقيا» بحيث تكون الصورة الديمجرافية أكثر تنوعا، فهذا مستحيل عمليا، لكن البدائل الأخرى التى تبحثها تتضمن تقليص البطالة، ورفع مستويات المعيشة، وإيجاد فرص عمل فى مجالات جديدة، ومساعدة النساء وكبار السن على تعلم الانجليزية.
المسلمون فى بريطانيا قبل غيرهم لا يستطيعون انكار أن هناك "جيتوهات" لهم فى بريطانيا. فهناك مناطق 90% من سكانها مسلمون من بنجلاديش أو باكستان أو الهند، لكن هذا فقط جزء من الصورة، وهو مرتبط ليس بالدين فقط، بل بالوضع الاقتصادى ايضا. فليس كل مسلمى بريطانيا معزولين فى جيتوهات تنتشر فيها الأفكار المتطرفة. الحقيقة أن أغلب مسلمى بريطانيا خاصة من أصول شرق أوسطية ممن يتمتعون بمستويات تعليم ومعيشة جيدة مندمجون فى المجتمع البريطاني.
المعضلة الأخرى أن عدم الاندماج والتطرف ليسا وجهين لنفس العملة. ومشكلة الاستراتيجية التى اعلنها كاميرون أنها ضمت جوانب ثقافية عديدة صنفها على أنها "سلبية" ولا تعزز فكرة الاندماج. فحتى تكون "بريطانيا مسلما" كما يقول كاميرون يجب أن تغير عددا من العادات الثقافية التى ترى "الدولة" انها تنتهك قوانينها، بينما يرى بعض مسلمى بريطانيا، خاصة مسلمى آسيا، أنها جزء من هويتهم الثقافية والدينية.
وأمام تلك "المواطنة المشروطة" بالتماهى مع ما هو مقبول من "الدولة وقوانينها" يجد بعض مسلمى بريطانيا صعوبة فى الاندماج، وهذا ما استخدمته داعش لتجنيد المئات فى بريطانيا. فليس فى الدولة الاسلامية قوانين وضعية أو نظام دولة مركزي. وعلى عكس تنظيم "القاعدة"، فإن هرم القيادة والقاعدة التنظيمية داخل "داعش" يتكون من شرائح عمرية صغيرة السن، الكثير منها من أوروبا. هؤلاء يقاتلون بمضادات الطائرات بيد، وفى اليد الأخرى "آى فون" و"آى باد" للدخول على تويتر وفيسبوك لتحديث تطورات المعركة على الأرض. يتخاطب الكثير بينهم بالانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية. وهؤلاء كانوا من بين الأكثر حماسة لإعلان الخلافة. هؤلاء الذين يشعرون بالتهميش فى بلادهم الاصلية، وجدوا فى تجربة الدولة الاسلامية خلاصا وهميا، البعض اكتشف أنه وهمى ومؤقت والبعض الآخر ربما فى طريقة للاكتشاف، لكن الطريق إلى هذا يمر عبر جثث آلاف المدنيين فى مناطق القتال فى سوريا والعراق.