التخلى عن دور الرقابة أو تحييده، جاء شهر رمضان المبارك هذا العام حاملا معه كما هائلا ومتنوعا من إعلانات التبرع، التى لعبت على وتر المشاعر بحرفية عالية، بعد أن وفر القائمون عليها سبل النجاح المبهر، فقد اجتهد أصحاب تلك الحملات فى توفير كل عناصر النجاح من استضافة بعض النجوم حسنى النية، أحيانا، وأحيانا أخرى التركيز على آلام الأطفال والمرضى وعرضها فى صورة مؤلمة من أجل حفز المشاهد على التبرع .
حاولت عمل حصر لكل الجهات التى تعلن قبول تبرعات من أجل توجيهها فى إطارها المناسب كما يعلنون ولكنى أعترف بالفشل فى حصرهم، واكتشفت كثرة عددهم ولن أبالغ اذا قلت إنه تضاعف تقريبا عن رمضان العام الماضى، بما يعنى أن اللعب بالإعلان على وتر المحتاجين، هو لعب فى المضمون، ومع التقدم التكنولوجى فى الصوت والصورة وامتلاك كافة عناصر الابهار، يتمكن المعلن من الوصول لهدفه بيسر، ولما لا وهو يقدم إعلانه مرارا و تكرارا محاصرا المشاهد على كل القنوات مخاطبا اياه بلغة الدين والورع والتقوى والتقرب إلى الله كعبادة فى شهر الإحسان، ولا يضير الأمر من عرض لآية كريمة تحض على معاونة المحتاجين والفقراء، لتكتمل عناصر التحفيز، وفى إعلان آخر يخرج أحد الدعاة المعروف بكثرة تابعيه، مؤكدا أن التبرع لهذه الجهة هو أفضل أنواع عمل الخير، وهو من أفضل طرق التقرب إلى الله والحصول على سيل من الحسنات، ولست هنا فى معرض انتقاد الشيوخ الأجلاء، أو النجوم المحترمين الذين نكن لهم التقدير والاحترام، ولكنى أتحدث من منطلق الحرص على مشاعر الناس التى تم جرحها وفى أوقات أخرى خدشها من أجل الوصول إلى أموالهم!
نعم هناك نسبة ليست قليلة من المصريين مصابة بفيرس c، وأخرى مصابة بأمراض مختلفة، بخلاف المحتاجين والمهمشين والمشردين، ولكن لم يصل الأمر لعمل إعلانات وصفها البعض بأوصاف غير لائقة تصب فى خانة التسول، والمدهش أنه بعد انتهاء الشهر المعظم، اختفت غالبية تلك الإعلانات بشكل مريب، فى محاولة التأكيد أن رمضان هو شهر التبرع و بقية شهور السنة تعتبر إجازة!
لقد تجاوزت تلك الإعلانات الحدود والأعراف التى نشأ عليها المجتمع المصرى المعروف عنه التدين والمحب لعمل الخير دون محفز مستفز جعل بعضنا يتردد فى التبرع وهنا أطرح بعض الأسئلة على المعلنين، وأرجو ان تجد إجابات.كم تكلفت تلك الإعلانات من إنتاج وإخراج وخلافه، وهل تتم إذاعتها مجانا أم بمقابل؟ وما هو المقابل إن وجد؟ومن أين يأتى التمويل هل من أموال المتبرعين أم من جهات أخرى؟
ثم نأتى لدور الحكومة المنوط بها حماية مصالح الوطن المواطن. وأرجو أن يتسع صدرها لقبول بعض الأسئلة والإجابة عنها.
من سمح لهذه الجهات بعمل إعلانات تمكنها من تلقى أموال؟ هل تعرف الحكومة كم الأموال التى تلقتها تلك الجهات؟ وفيما تم إنفاقها؟
هل تراقب الحكومة أداء تلك الجهات؟
تحاول الحكومة من خلال البنك المركزى ضبط إيقاع السوق من خلال وضع آليات تحكم عملية دخول وخروج الأموال، وهو ما مكن البنك المركزى من التحكم فى سعر صرف الدولار لفترة معقولة، كما تحاول وزارة المالية وضع ضوابط قوية تمكنها من مراقبة موظفى الحكومة، بعد أن قررت تسلم رواتبهم من خلال ماكينات الصراف الآلى، وليس من خلال جهات عملهم، كل هذه الإجراءات وغيرها من وسائل الرقابة تسير فى نهج محمود الغرض منه إحكام الرقابة منعا للفساد.
ورغم ذلك هناك آلاف الجهات المسموح لها بتلقى أموال تحت أى مبرر، لا نعرف عددها ولا طريقة عملها ولا عدد العاملين بها، ويكفى أن ينتهى اسمها بالخيرى أو الخيرية، لتجد الحكومة لها مبررا لتركها تعمل كيف تشاء!
لا نملك رفاهية الوقت الذى يجرى بأقصى سرعة لنشاهد أو لنجرب، فبعد مروره لن يفيدنا الندم الذى كان ضيفا ثقيلا علينا فى فترات سابقة، لذا على الحكومة أن تقوم بدورها فى مراقبة أموال رمضان، وإن جاز أسميه «اقتصاد رمضان» عبر جهاتها الرقابية، ولن يضير تلك الجهات الخيرية الكشف عن كم أعمالها الخيرية لتكون حافزا ملموسا يشجع المواطن البسيط قبل الغنى على التبرع من أجل عمل الخير.
وكفى الحكومة عجزها عن مراقبة الاقتصاد الموازى المتمثل فى تجار الباطن والباعة غير المرخصين وأمثالهم وضياع ضرائب مستحقة للدولة عن حجم تجارتهم، التى فاقت وفق بعض الخبراء الــ 20 مليار جنيه!
وأرجو ألا نؤجل عمل اليوم إلى الغد حتى يأمن ملايين المتبرعين على أموالهم، وأنها ذهبت فى طريقها السليم، مع التأكيد أن من بين تلك الجهات نماذج ناجحة.