حيرتى أمام المدينة وأمام أحيائها وأبوابها: من أى باب أدخل؟ وعلى أى مكان أقف؟ وأنا أفكر كثيرا فيما يصح أن أقوله عن باريس، لأن كل كلمة أقولها عنها تتصل بمصر وتشير إليها من قريب أو من بعيد.
نحن أيضا لنا أيامنا وتواريخنا، والهموم التى نواجهها وثيقة الصلة بالهموم التى تواجهها باريس، والأخطار والتحديات واحدة أو متشابهة، ليس فقط لأننا بدأنا نهضتنا من باريس، بل أيضا لأن الحدود التى كانت تفصل بين بلاد العالم اختفت، والتقى الشرق بالغرب، واتصل الجنوب بالشمال، وتمكن أهل الأرض من السير على وجه القمر، فإن كانت الطرق مختلفة والسابقون غير اللاحقين، فالغايات هى الغايات والتقارب يزداد يوما بعد يوم.
ومن المؤكد أن الفرنسيين والغربيين عامة سبقونا بعدة قرون، وفى الوقت الذى كانوا فيه يواصلون تقدمهم عرضا وطولا، فيكتشفون ما وراء المحيطات وما فوق النجوم، كما نحن نتوقف عن الحركة بعد أن بدأنا متأخرين، وننكص على أعقابنا ونعود إلى عصور الظلام التى خرجنا منها بفضل ما افتبسناه من علوم الأوروبيين ونظمهم وخبراتهم وتجاربهم التى أدرنا لها ظهورنا فى العقود الأخيرة، فإذا كان لابد من أن نستأنف النهضة لنبقى على قيد الحياة، فلابد من العودة للاتصال بأوروبا، والانتفاع بما خاضته فى هذه العقود الأخيرة من تجارب لم تكن كلها مكاسب، لكننا نستطيع مع ذلك أن ننتفع بها
لأننا ننتفع بالتجربة، ولو كانت خاسرة ننتفع بالمكسب، كما ننتفع بالخسارة نستفيد من الخطأ، كما نستفيد من الصواب إذا فهمنا تجارب الآخرين وابتعدنا عن تقليدها ووضعنا أيدينا على الاسباب التى تضمن الربح والأسباب التى تؤدى إلى الخسارة، بل نحن محتاجون إلى أن نتعامل مع أنفسنا بهذا المنهج وبهذه الروح.
فنحن نتخلف حين نقدس آباءنا ونقلدهم، وهم بشر مثلنا ومثل غيرنا من البشر يصيبون ويخطئون فى الحكم على ما يقع لهم ويدور حولهم، فضلا عن أن الزمان يختلف والمطالب تتغير والطرق تتعدد، فالتقليد خسارة مؤكدة، ولو كان للآباء والأجداد.
ولقد هبطت بى الطائرة المصرية فى مطار شارل ديجول قبل شهر كان حافلا بالاحداث والأعمال والأعياد التى شغلت الفرنسيين، كما شغلت غيرهم.
الوضع الاقتصادى شاغل يومى للملايين من الفرنسيين الذين تعجز دخولهم عن تلبية احتياجاتهم ومطالبهم، فالمطالب تتزايد، والأسعار ترتفع، والأجور كما هى، فإذا كان هذا هو حال الذين وجدوا الفرصة وضمنوا المرتب، فحال الذين يعانون البطالة، وهم يقدرون بأكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون أفسى بكثير.
وإذا كان هذا هو الوضع فى فرنسا، فماذا نقول نحن فى أوضاعنا؟! والأمن فى فرنسا شاغل آخر، أو فلنسم الأشياء بأسمائها فنقول إن فرنسا تواجه الإرهاب، كما نواجهه، وإن كانت أسبابه فى مصر غير أسبابه فى فرنسا، والمدى الذى بلغه عندنا أبعد وأخطر بما لا يقاس، لأن الإرهاب عندنا ثقافة تستند للدين، أما عندهم فوباء يمتد إليهم من خارج الحدود.
فرنسا ورثت من مستعمراتها التى تحررت ملايين المهاجرين الذين استوطنوا فرنسا دون أن يتمكنوا من الاندماج فى المجتمع الفرنسى، عرب مغاربة، وأفارقة، وآسيويون فيتناميون وكمبوديون لم يعاملوا دائما باحترام وإنسانية، ومنهم من عانى من العنف والتمييز، فمن الطبيعى ألا تخلو ردود فعل هؤلاء من العنف والرغبة القوية فى تأكيد الذات والدفاع عن الانتماء الأصلى، واظهار الفوارق، ورفض الاندماج، وهذا هو المناخ الذى استغلته الجماعات الإرهابية، ونجحت فى تجنيد عدد من المهاجرين الذين روعوا الفرنسيين بما قاموا به فى الأشهر والسنوات الأخيرة، الرهبان الفرنسيون الذين خطفوا فى الجزائر، والاطفال الذين قتلوا فى مدارس اليهود فى تولوز، والكتاب والرسامون ورجال الأمن، وغيرهم من الضحايا الذين طالتهم الأيدى الملوثة فى مجلة «شارلى إبدو» وسوى ذلك من الجرائم المتتابعة التى فرضت نفسها على الفرنسيين وأصبحت هما من همومهم اليومية.
ومن الطبيعى أو المفهوم أن تستغل التيارات العنصرية فى فرنسا هذه الجرائم لتشن حملاتها على المهاجرين العرب والأفارقة، وهذا هو الإرهاب بوجهيه الكريهين: الوجه المتمثل فى الارهابيين الذين يرفعون علم القاعدة الاسود فوق رءوس ضحاياهم، والعنصريون والمتطرفون الذين يستغلون إرهاب القاعدة، وداعش، وجند الخلافة، وبوكو حرام، وجبهة النصرة، وأنصار بيت المقدس، وغيرها من هذه السلالة التى تتوالد الآن بعدما انقرضت ـ أقول إن المتطرفين الفرنسيين يستغلون إرهاب هؤلاء ليردوا عليه بإرهاب مضاد لا يقل عنه تخلفا ووحشية يسلطونه على المهاجرين عامة، وعلى العرب والمسلمين، خاصة وعلى الإسلام بالذات، كما يفعل فينكل كوت، وهو مثقف فرنسى يذكرنى ببعض المثقفين المصريين الذين بدأوا فى الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى يساريين متحمسين ثم انقلبوا على أعقابهم فصاروا فاشيين ورفعوا رايات الاسلام السياسى.
لكن فينكل كوت الذى سأعود إليه فى حديث قادم ليس ظاهرة فريدة، وليس مجرد مونولوجست، وإنما هو صوت من أصوات تعبر عن أوضاع جديدة نشأت فى العالم منذ نهاية الستينيات فى القرن الماضى إلى الآن، وأثرت بعمق على حياة الفرنسيين أفرادا وجماعات، وطرحت عليهم أسئلة تتصل بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، بالهوية الوطنية، والاستعداد لقبول الآخرين، بالمحافظة على الاستقلال من جانب، والاندماج فى المحيط الأوروبى والمحيط الغربى والمحيط العالمى من جانب آخر، بالنظرة الفوقية التى تتعامل بها بعض الأوساط، وبعض التيارات مع الأجانب والقيم الإنسانية والشعارات التى رفعتها الثورة الفرنسية، وتحولت إلى تراث قومى وعالمى يحب الفرنسيون أن يظلوا أوفياء له.
ومن الطبيعى أن يكون للثقافة الدور الأول فى التصدى لهذه القضايا والإجابة على هذه الأسئلة، وهذا ما حاولت أن أتابعه بقدر ما استطعت، فالنشاط الثقافى الفرنسى عمل دائب يزاحم بعضه بعضا ويسائل، بعضه بعضا فى كل المجالات التى تتعدد فيها الاتجاهات وتتصارع.
لأن ثقافة الفرنسيين هى حياتهم التى تتحول إلى فكر وبحث وإبداع ونقد ومراجعة، وكما أن الحياة متعددة الوجوه، فالثقافة كذلك، فضلا عما يتمتع به الفرنسيون من حريات واسعة تسمح لهم بأن يضعوا كل شىء فى حياتهم الخاصة والعامة موضع التساؤل والمراجعة، فالثقافة الفرنسية، وخاصة فى هذه الأيام، تسائل فرنسا وتسائل العالم وتسائل السلطة والمجتمع، وتسائل حتى نفسها كما نرى فى كتاب لوران بوفيه الذى صدر أخيرا عن دار فايار «L,insecurite culurellc» ـ انعدام الأمن الثقافى ـ وهو يلخص فكرته فيقول إن الأزمة الاقتصادية التى يعانى منها الفرنسيون لا تكفى وحدها لتفسير قلقهم على أنفسهم، فى مواجهة اضطراب النظام العالمى، والمشكلات التى يعانون منها فى بلادهم تتصاعد النزعات الوطنية المتطرفة والتيارات السوقية التى تغازل الرعاع، وهذا شاهد على أن الفرنسيين ليسوا آمنين على هويتهم، وعلى ثقافتهم، وربما عدت لأقف وقفة أطول على هذا الكتاب.