رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

فى وصف حالنا

بعد أيام يهل علينا عيد الفطر. كلما جاء العيد وبعد أن تغربت عن قريتي. أعيش قصة الترحال الذى قمت به فى منتصف ستينيات القرن الماضي. ومع أن الترحال يؤدى لاستقرار. فما زلت أنتظر الترحال العكسى الذى يأخذنى مرة أخرى وربما كانت أخيرة إلى القرية التى جئت منها.

مناسبات كثيرة أحِنُ فيها لحضن أمى وتراب قريتى ولون زرعها الأخضر افتقدته منذ لوحت لها بمناديل الوداع وليتنى ما فعلت. ليلة العيد عندما أمشى فى شوارع القاهرة وحيداً وأستمع لأغنية أم كلثوم الشهيرة: يا ليلة العيد أنستينا وجددت الأمل فينا. رغم أن الأغنية عنوانها: حبيبى يسعد أوقاته. إلا أن غناءها لليلة العيد يبعث فى النفس كل معانى الشجن والحزن والأسي.

أحاول الخروج من دائرة ذاتي. والابتعاد عن همومى الصغيرة التى تأخذنى من هموم كبيرة تحيط بي. أنظر إلى وطننا العربي. وأحاول استخراج صورة تذكارية فى ليلة العيد. وكلمة العيد لغوياً تعنى أن العيد هو ما تعود عليه الإنسان من بهجة وسرور.

أسأل نفسي: أى بهجة وأى سرور فيما يجرى فى العراق؟ أى بهجة وسرور فى سوريا التى كنا نقول عليها بلاد الشام وعن شاطئها المتوسطى بر الشام؟ ماذا يعنى مجىء العيد فى اليمن الذى كان يقال عنه: السعيد؟ لدرجة أن اليمن السعيد يوشك أن تشكل كلمة واحدة. ثم ماذا يعنى العيد فى ليبيا الشقيقة؟.

يصل العيد للأشقاء. ومن المستحيل أن يشعر الإنسان ببهجة العيد. لن يرتدى الأطفال فى القرى الملابس الجديدة. ولن يقضوا ليلة العيد فى السهر ما بين الترزى الذى يفصل لكل منهم جلباب العيد ثم يذهبون إلى صانع الأحذية لكى يتسلم كل منهم حذاء العيد. فما إن يهل صباح العيد ويسمعون التكبيرات من فوق المساجد حتى يذهب كل طفل ماسكاً بيد والده ليدخل المسجد بأُبهة ملابس العيد حتى يراها أهل القرية.

لا أعرف تقاليد الأعياد فى ريف العراق. لكن عراق الأمس غير عراق اليوم. هذا إن كان ثمة عراق فى هذه الأيام. لكن القطر العربى الذى اجتمعت فيه معجزة البترول والمياه العذبة والأرض الحمراء من كثرة الخصوبة. والتقت على أرضه عبقرية الزراعة والصناعة. يبدو الآن مهدداً بكل ما يمكن أن تهدد به الأوطان. مهدداً بوحدته. بكيانه. بوجدان أهله. هجره من استطاع الهجرة. وبقى فيه من أقعدته ظروفه ولم تمكنه من الفرار.

أما بلاد الشام التى تهت فى جمال ريفها. رأيت معجزة الفقر والنظافة وتحويل كل ما فى الحياة إلى شىء جميل تحب أن تحياه. فى هذه البلاد ما يستحق أن نحيا لأجله. وأن نواصل الحياة لنراه فى نموه وازدهاره. لكن ما تحمله لنا الأخبار عما يجرى هناك لا يخرج عن الدماء والأشلاء والتدمير والحرق.

أمورٌ يسمعها العالم عنا. وأنظر حولى مستغرباً كيف تحدث من فريق ينتمى إلينا؟ نساء تباع علناً للمتعة رغم أننا فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. رجال يموتون غلياً فى المياه التى تتعدى درجة الغليان. عيونٌ تُخلع من بشر أحياء لكى يعيشوا فى الدنيا باعتبارها ظلاماً أبدياً.

الأمة التى تفننت فى صناعة الحياة. وتحويل الحياة كرحلة مليئة بكل ما هو جميل وعذب. أصبح لا ينقل عنها من أخبار إلا كل ما يهدد استمرار الحياة. ويظهرنا جميعاً من يفعلون هذا ومن يقفون ضد الفعل. بل ربما يدفعون حياتهم ثمناً لمواقفهم. لكن أمام العالم الكل مدان والجميع يخجل من كونه ينتمى إلى هذه الحضارة التى لم يبق فيها من الحضارة ولا حتى اسمها.

زرت اليمن عندما كان سعيداً. ورحلت من صنعاء إلى تعز. مسلحاً بعبارة قالها لى نجيب محفوظ: لا حد لجمال أعين نساء تعز. فاليمن كانت القطر الوحيد الذى زاره نجيب محفوظ بقرار من المشير عبد الحكيم عامر. عندما كان جيشنا هناك. ينصر ثورة أهل اليمن على حكم العصور الوسطي.

وبعد أن عاد لمصر كتب نصه القصصى الوحيد الذى تدور أحداثه خارج مصر. قصته: ثلاثة أيام فى اليمن. وعندما أعيد قراءة النص وأستذكر ما سمعته منه عن الرحلة من جوانب لم يدونها فى نصه. أدرك أن اليمن مكانٌ له عبقرية خاصة. تترك بصماتها على كل من يذهب إليها.

قضيت أياماً فى ليبيا. ورأيت الشوارع الخالية من الناس. وحسدتهم على أنهم يعيشون فى بلدان مغسولة من الزحام والضوضاء. وأنهم لم يعرفوا مجتمعاً يدوس المشاة على أقدام بعضهم البعض من شدة الزحام. قال لى بعضهم إنه يشعر بالملل من هذا الواقع. ويحن لضجيج مصر وصخبها. قلت لهم إننى أحسدهم على الهدوء الذى يخترق المسافة ما بين الليل والنهار.

أقضى الليالى مستمعاً للراديو. أتنقل من محطة لأخري. أحاول أن أصل إلى هذه الأماكن بعين الخيال. وأن أرى من يعانون هناك. ونحن نستمتع بحياتنا. نغرق فى سحر البرجوازية الخفي. نكتفى بمصمصة الشفاه ومشاركتهم ما يمرون به من أهوال بأن نقول لأنفسنا فى ليلنا الذى بلا نهاية: نحن نتألم لما يجرى لكم. ونشارككم مآسيكم بالتضامن الإنساني. وهل المشاركة والتضامن من الأمور القليلة فى هذا الزمان؟.

تاهت من وجدانى أحلام الأمل فى أن أصحو ذات صباح لأجد حولى وطناً عربياً أنا الذى يهاجموننى باعتبارى ابن الحلم القومى العربى الذى يرفض أن يكفر به. ويعتبر أن الوصول له هو الخلاص الأخير لنا من كل ما نعانيه. لكنى عندما أجالسهم وأستمع لكلامهم هؤلاء الذين يعيشون فى الضفة الأخرى من عالمنا. وأفكر أن أرد عليهم فلا أجد بداخلى الرغبة فى مجرد الكلام.

ما لا يعرفونه أننى أعيش على الضفة الأخرى لليأس. وإن كنت أحاول أن أبدو بصورة معاكسة لهذا. وأمضغ كلمات الأمل ومشتقاته لأقنع نفسى قبل أن يسمعونى بأن الأمل ما زال موجوداً وأنه ينتظرنا عند حافة الأفق. وعلينا ألا نتقاعس وأن نسير إليه ولكن كيف. وإن سرنا هل يوجد أمل؟ أم أنه السراب؟ وما أدراك ما السراب؟ ألا يكفى السراب وصفاً لحالنا؟!.


لمزيد من مقالات يوسف القعيد

رابط دائم: