السيناريو ذاته تقريبا، سيارة مفخخة تقترب من الهدف فى الصباح الباكر، تستقر بعض الوقت دون حرج، ثم تنفجر عن بُعد فى وقت يحدده الجانى، ويسقط شهداء وتتعرض مبانى وسيارات لخسائر كبيرة. وبعدها تبدأ الآلة الإعلامية المغرضة لتثير الريبة والشكوك حول الوضع العام فى البلاد ومدى قدرة «النظام»على مواجهة هذه الحملة الإرهابية الخسيسة. حدث الأمر عدة مرات من قبل، فى محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق، واستهداف النائب العام المستشار هشام بركات واخيرا مبنى القنصلية الايطالية فى وسط القاهرة. والمرجح أن هناك خلايا وأفرادا يعملون على توجيه ضربة أخرى قريبا يجب أخذ كافة الاحتياطيات لوأدها فى مهدها. والتحليل السائد أن هذه الأعمال الإرهابية هى بمثابة رد فعل على قوة الضربات التى قام بها الجيش والشرطة ضد منظمات الإرهاب فى سيناء مؤخرا، وجزء من هذا التحليل مقبول نظريا، ولكنه يظل أقل من الحقيقة المرة، ذلك أن الموجة الراهنة للإرهاب العابر للحدود التى تتشارك فيها جماعة الإخوان وتنظيمها الدولى وبقايا منظمات القاعدة وأخواتها ودولة داعش فى اراضى سوريا والعراق وليبيا ليس لها سقف جغرافى أو زمانى، وتؤكد أن مصر أحد أهدافها الثمينة وهى الجائزة الكبرى لمشروع الخلافة المزعوم.
إن نجاح القوات المسلحة والشرطة فى إجهاض محاولات استقطاع جزء من أرض مصر فى سيناء الغالية لغرض الإدعاء أنها باتت تحت سيطرة تنظيم داعش أو خلافه، يجب ألا ينسينا أن طبيعة الإرهاب الراهن تسمح له بالتجوال على أكثر من مكان فى الوقت نفسه، فإذا زاد الضغط فى سيناء، يتجول الإرهابيون الغامضون بأفعالهم الخسيسةفى محافظات الدلتا أو فى القاهرة لغرض إثارة الشكوك لدى العموم فى قيمة المواجهة معهم وبث روح الفرقة والانقسام فى المجتمع، مستغلين فى ذلك أن أرض المعركة مفتوحة ومليئة بالأهداف الثمينة التى من شأن الإضرار بأحدها أن يؤكد سياسة النفس الطويل للإرهابيين، وأن خسارته معركة لا تعنى لهم نهاية المطاف. ولما كان مسرح عمليات المعركة هو بطول الوطن وعرضه، يصبح الاكتفاء بدور المؤسسات الأمنية وبالرغم من تضحيات رجالها الأبطال نقطة ضعف كبيرة لابد من إغلاقها عبر مشاركة مجتمعية أوسع فى المعركة ضد الارهاب.
وبالعودة إلى الحالات الثلاثة التى استخدمت فيها السيارات المفخخة، نجد أن القاسم المشترك فى هذه الحالات ليس فقط التدبير والمراقبة والمتابعة واختيار الهدف الكبير، واستخدام السيارة المفخخة بكمية كبيرة من مواد شديدة الانفجار، وإنما أيضا بعض التقصير الأمنى الذى يمثل ثغرة كبيرة يخترق منها الجناة بفعلتهم، أضف إلى ذلك قدر من اللامبالاة لدى المواطنين العاديين الذين يفتقدون للحس الأمنى نتيجة غياب الوعى العام بطبيعة الحرب التى تواجهها البلاد، ونظرا لكونها حربا خاصة فلا تكفى فيها تحركات الأجهزة الرسمية مهما كانت مثالية وعلى أعلى كفاءة ممكنة.
الحرب الراهنة سواء سميت حروب الجيل الرابع أم حروب الإرهاب العابر للحدود أم أى اسم آخر، تتطلب مواجهة من نوع خاص، يلعب فيها المواطنون دورا مهما ورئيسيا، ليس فقط من خلال مواجهة الشائعات المغرضة والتمييز بين الأخبار الكاذبة وتلك الصادقة، وعدم الوقوع فريسة لحملات الدعاية التى تجيدها المنظمات الإرهابية والدول الداعمة لها، وعدم فقدان الثقة فى المؤسسات الرسمية خاصة الجيش والشرطة، ولكن أيضا فى منع الأحداث الإرهابية نفسها، عبر قوة الملاحظة والإبلاغ عن أى تحركات مشبوهة للسلطات المعنية، وهو ما يتطلب حملات توعية مكثفة من قبل القوات المسلحة ووزارة الداخلية يكون هدفها تعريف المواطن البسيط كيفية الملاحظة للتصرفات الغريبة وأسلوب التصرف فى هذه اللحظات.
مشاركة المواطنين فى المواجهة الاستباقية للأعمال الإرهابية لم تعد خيارا بل هى ضرورة كبرى.فكم الأهداف الحيوية والمكشوفة فى طول وعرض مصر يصل إلى الآلاف، ومهما قامت الشرطة والجيش بجهود التأمين الصارم، سيظل هناك أهداف يسهل الوصول إليها والإضرار بها. وهنا تظهر أهمية وقيمة مشاركة المواطنين بعد ترقية وعيهم بأساليب المنظمات الإرهابية فى مراقبة الهدف ومتابعة تحركاته واستخدام المتفجرات أو السيارات المفخخة، وبحيث يتشكل وعى شعبى مضاد يسهم فى إجهاض بعض الأفعال الإرهابية قبل وقوعها. فحين يرى شباب المنطقة سيارة غريبة يحوم بها سائقوها محاولين الاقتراب من أحد المبانى المهمة، يصبح معرفة من هؤلاء وماذا يريدون أمرا ضروريا، وفى حال زيادة الشكوك يصبح التحفظ على السيارة وسائقيها واللجوء الفورى الى جهة رسمية تصرفا حكيما. كما أن منع تجمع الباعة الجائلين بالقرب من أو حول المبانى المهمة يعد مسألة حيوية لا مجال لتجاهلها.
حروب الإرهاب تمس المواطنين وتستهدف معيشتهم وحياتهم، تماما كما تمس الدولة والمؤسسات والمسئولين فيها، سوف تستمر بعض الوقت، وبعبارة أخرى أنها تتطلب تغيير نمط وسلوك المواطن البسيط ليس من قبيل التكيف مع هذه النوعية من الحروب وقبولها كأنها قدر محتوم، ولكن من أجل الاحتواء وإفساد أهداف الجماعات الارهابية ومن يقفون وراءهم. وهو تغيير لن يحدث إلا إذا كان هناك اقتناع مجتمعى بأن مصر لن يحميها إلا كل أبنائها، سواء كانوا جنودا أو ضباطا فى جيش أو شرطة أو فى مصنع أو شركة أو حتى بائع متجول يطرق الأبواب أو يجذب الانتباه لسلعته عبر صوت جهورى. وعلى الرغم من أن أهمية وضرورة التحركات الحزبية والتى يشارك فيها رموز من مختلف الفئات تدين الإرهاب وتؤكد الوقوف وراء مؤسسات الدولة، ولكنها ليست كافية. هى رسالة معنوية قوية ضد من يريد إغراق البلاد فى فوضى وفى فشل وفى تناحر ودماء، ولكنها بحاجة إلى تحركات من نوع آخر من أجل زيادة وعى أعضاء الأحزاب أنفسهم بحقيقة اللحظة الحرجة التى تمر بها مصر وكيفية القيام بأدوار مباشرة لكشف المحاولات الإرهابية قبل وقوعها.
إن تحصين الجبهة الداخلية هى الوسيلة الأقوى والأقل تكلفة للانتصار على الجماعات الإرهابية والدول التى تدعمهم. وليكن مفهوما أن هذا التحصين المطلوب لا يستهدف الوقوف وراء أشخاص، بل الوقوف وراء الوطن بأسره. وليكن مفهوما أيضا أن هذا التحصين يعنى قدرة المجتمع على عزل قوى الإرهاب والداعمين لهم، وهو ما يعود بنا مرة أخرى إلى ضرورة قيام حملة توعية يشارك فيها الإعلام بكل نوعياته وأدواته ومؤسسات الدولة ترفع من الوعى الأمنى للمواطنين العاديين بخطورة المنظمات الإرهابية، وكيفية التصدى لها وكشف أساليبها أولا بأول.