رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

فى ذكرى اقتصادى عظيم

منذ مائة عام (1915) ولد فى جزيرة صغيرة (سانتا لوشيا) من جزر الهند الغربية، التى كانت مستعمرة بريطانية فى ذلك الوقت، طفل أسود البشرة، لاسرة كثيرة العيال ومتوسطة الحال، ولأبوين يشتغل كل منهما بالتدريس، تبين مع الوقت أن هذا الابن حاد الذكاء، إلى درجة قد تصل إلى العبقرية، جعلت منه واحدا من أكبر اقتصاديى النصف الثانى من القرن العشرين، ومن أعظم من كتب فى التنمية الاقتصادية.

حصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد فى سنة 1979، فكان أول رجل أسود البشرة يحصل على هذه الجائزة فى غير مجالى السلام أو الأدب.

لم نكن يعرف عنه كل هذا عندما ذهبنا إلى بريطانيا فى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، نحن الطلبة المصريين المبعوثين لدراسة التنمية الاقتصادية، التى كانت قد أصبحت فى ذلك الوقت أكثر الموضوعات شهرة، وجاذبية لطلاب الاقتصاد الآتين من العالم الثالث، سمعنا وقتها عن كتاب مهم، لابد من قراءته، اسمه «نظرية النمو الاقتصادى» لمؤلف اسمه «وليام ارثرلويس» وهو اسم انجليزى قحّ، لا يوحى بأن صاحبه ينتسب لأحد أفقر بلاد العالم، وصف هذا الكتاب عند صدوره فى 1955 بأنه من الممكن مقارنته بكتاب آدم سميث الشهير (ثروة الأمم) وإن كان سميث يتكلم عن أغنى دول العالم، وآرثرلويس يصف الحال فى أفقرها.

قرأت الكتاب فوجدته فعلا مختلفا عن بقية ما قرأت عن التنمية الاقتصادية، سواء قبل هذا الكتاب أو بعده، حتى أصبح اسم آرثر لويس علامة كافية تلزمك بقراءة الكتاب أو المقال الذى يظهر عليه، كانت لديه سلاسة فائقة فى الاسلوب، ووضوح تام، ويشيع من بين سطوره نوع من الحكمة تفتقده لدى غيره، وهو يتعاطف مع الدول الفقيرة دون مبالغة فى إلقاء المسئولية على المستعمرين، ويتعاطف مع الفقراء فى هذه الدول أكثر منه مع أغنيائها، فهو يسارى دون أن يكون ثوريا أو ماركسيا، ولكن كتاباته كانت توحى أيضا بالذكاء الحاد الذى سمح له بترتيب صحيح للأولويات، وبالوصول فى التحليل إلى أعمق مما ذهب إليه غيره، بالإضافة إلى استعداد لرفض بعض الآراء الشائعة إذا تعارضت مع ما يبدو له منطقيا أو واقعيا.

هكذا قضينا فترة البعثة، ونحن نحمل لكتاباته احتراما كبيرا قبل أن نعرف شيئا عن نشأته، ولون بشرته.

بمناسبة حصوله على جائزة نوبل، طلب إليه أن يكتب نبذة عن تاريخ حياته، فذكر بعض الوقائع الطريفة التى تستحق أن تروى، من ذلك أنه أصيب، وهو فى السابعة من عمره بمرض منعه من الذهاب إلى المدرسة لمدة ثلاثة أشهر، فتولى أبوه تعليمه خلال هذه الفترة، فإذا به لدى عودته إلى المدرسة يكتشف أن ما تلقاه من أبيه من دروس فى البيت خلال ثلاثة أشهر، يزيد على ما تلقاه التلاميذ فى المدرسة خلال عامين، وترتب على ذلك أن تم نقله إلى فصل أعلى، مع تلاميذ يكبرونه بعامين.

ذكر أيضا أنه بعد أن تخرج بتفوق من كلية لندن للاقتصاد طلب منه الاقتصادى الشهير فردريك هايك، وكان وقتها رئيسا لقسم الاقتصاد، أن يقوم بالقاء محاضرات على الطلبة عن التطور الاقتصادى فى أوروبا بين الحربين العالميتين، فقال له لويس إنه لا يستطيع ذلك لأنه لا يكاد يعرف شيئا عما حدث لأوروبا فى هذه الفترة، فجاءت الإجابة التالية من هايك، والتى ظل لويس يذكرها، لاشك لأنه وجد من تجربته بعد ذلك ما يؤيدها، (كما وجدت أنا أيضا)، وهى «أن أفضل طريقة لاكتساب المعرفة عن شىء ما هى أن تقوم بتدريسه».

أثناء إقامته بلندن قام برحلة إلى الدنمارك، ولفت نظره فارق واضح بين طريقة معاملة الدنماركيين لأصحاب البشرة السوداء، ومعاملة الانجليز لهم، قال إنهم فى الدنمارك «لا يظلون يبحلقون فى وجهك تعجبا من لون بشرتك، كما يبحلقون فى لندن» ثم صادف بسبب ذلك مشكلة عويصة فى الحصول على وظيفة للتدريس فى جامعة بريطانيا، فعندما تقدم لوظيفة مدرس فى جامعة ليفربول، مؤيدا بتوصيات قوية من أساتذته، جاءه الرد يطلب منه أن يأتى أولا إلى ليفربول ليزور الجامعة لبضعة أيام «حتى يتعرف الناس هناك عليه» فرفض غاضبا، وصرف النظر عن الوظيفة، وفسر ذلك بأنه «لم يكن مستعدا لقبول أن يكون من بين شروط الحصول على الوظيفة أن يعرض نفسه أولا على الناس هناك، حتى يتأكدوا من أن منظرة مقبول».

ولكنه حصل فيما بعد (فى سنة 1948) على وظيفة محاضر فى جامعة مانشستر، وظل بها عشر سنوات، وكان بهذا أول أستاذ جامعى أسود البشرة فى أى جامعة بريطانية، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة ليصبح أستاذا فى جامعة برنسترن.

نشر آرثرلويس خلال وجوده بمانشستر مقالا شهيرا بعنوان: «التنمية الاقتصادية فى ظل وجود كمية غير محدودة من القوة العاملة» أثار اهتمام المشتغلين بالتنمية، وظل فترة طويلة يعتبر من أهم ما كتب عن التنمية، وخصته بالذكر مبررات منحه جائزة نوبل، كان هذا المقال يعاد نشره فى كثير من المجلدات التى تنشر أهم ما كتب عن التنمية، كما قمنا نحن الاقتصاديين المصريين، بترجمته ونشره فى مجلد اصدرته جمعية الاقتصاد السياسى فى سنة 1968، بعنوان (مقالات مختارة فى التنمية والتخطيط الاقتصادى)، وقد أعدت قراءته منذ أيام قليلة، عندما قرأت عن مرور مائة عام على ميلاد الرجل، فراعتنى أشياء جديدة لم أكن قد لاحظت أهميتها عندما قرأتها لأول مرة فى لندن، وراعنى على الأخص كم يعتبر هذا المقال ملائما تماما لحالة مصر الآن.

فى البلاد المكتظة بالسكان «هكذا يبدأ ارثرلويس مقاله» كالهند والصين ومصر وجامايكا، يتسم المشهد الاقتصادى بوجود «عرض غير محدود» من القادرين على العمل، مع ندرة فى كمية رأس المال والأرض الزراعية، مستوى الانتاجية الحديثة للعمل (أى إنتاجية العامل الأخير) تساوى صفرا أو هى قريبة من الصفر، ولكن مستوى الأجر أعلى من الانتاجية الحديثة (بعكس ما تقوله النظرية الاقتصادية الحديثة) لأن العمال يجب أن يحصلوا على الأقل على حد الكفاف حتى يستمروا فى الحياة، ومن ثم تضمن التقاليد والعادات السائدة أن يحصل العامل على ضروريات الحياة، هذه هى الفرصة الحقيقية المتاحة للتنمية: تشغيل العمال بأجر لا يكاد يتجاوز حد الكفاف، ولكن فى مشروعات جديدة ذات انتاجية أعلى، فيتحقق ربح (أو فائض) يستخدم معظمه فى مزيد من الاستثمار، وإقامة مشروعات جديدة، وتوظيف المزيد من العمال بإنتاجية عالية.. إلخ يستمر ذلك حتى يستوعب فائض القوة العاملة، فتبدأ الأجور فى الارتفاع، ويستمر هذا الارتفاع حتى يمكن وصف الدولة بأنها حققت التنمية أو أصبحت «متقدمة».

وجود هذا الحجم من المتبطلين (سواء بطالة مكشوفة أو مقنعة) هو إذن نقمة البلاد المكتظة بالسكان، ولكنه هو نعمتها فى الوقت نفسه، فالتنمية لا تحدث إلا بتوظيف المتبطلين على هذا النحو، واستثمار ما ينتج من فائض (أو ربح) فى مزيد من توظيف المتبطلين، وهكذا لا يهم آرثرلويس كثيرا ما إذا كان هذا يحدث بيد القطاع الخاص أو بيد الدولة، المهم هو تشغيل العمال على هذا النحو، كذلك لا يهمه كثيرا ما إذا كان الاقتصاد منغلقا أو منفتحا، فرأس المال الأجنبى يمكن أن يسهم فى التنمية، ولكن بشرط هو (على حد تعبيره): «أن يؤدى إلى ارتفاع الإنتاجية فى تلك السلع التى تنتجها هذه البلاد بغرض استهلاكها محليا، إذا بغير ذلك لن يرتفع مستوى الأجر الحقيقى فيها».

هذا الكلام الذى كتب منذ ستين عاما، كم يبدو منعشا الآن فى مناخ يتقاتل فيه الاقتصاديون بين الانتصار للقطاع العام أو الخاص، ويقدسون فيه رأس المال وزيادة الاستثمار سواء شغلت المتبطلين أو لم تشغلهم، ويتغنون بفضل رأس المال الأجنبى، سواء أنتج ما تحتاج إليه حقا أو لم ينتجه.


لمزيد من مقالات د‏.‏ جلال أمين

رابط دائم: