لكن هذا أيضا مرهون بتوفير الحقوق العمالية التى نص عليها الدستور وتضمنتها القوانين ، كما يجب مد مظلة التأمينات والحماية القانونية الى فئات وقطاعات كثيرة من العمال ، خاصة فى قطاع العمالة غير المنتظمة مثل عمال التراحيل وعمال البناء وعاملات المنازل ، فهؤلاء يجدون قوت يومهم بصعوبة وينظر اليهم الكثيرون نظرات شفقة لكن دون قدرة على مساعدتهم ، والبعض ينظر اليهم بطريقة غير لائقة ، وفى كل الأحوال فإننا نذكرهم خلال الاحتفال بعيد العمال حتى ينضموا الى قافلة العمل والإنتاج لنبنى بلدنا ونعبر كل الأزمات.
" الفحم ياريس" كانت الكلمة التى رفعها العمال وقت زيارة المهندس إبراهيم محلب منتصف شهر أبريل، من أجل اهتمام الدولة بهذا المصنع وعودة الروح إليه.
أنت فى مصنع الحديد والصلب، حلم مصر والمصريين الذى كان، الحلم الذى تعرض للتهميش والإهمال، منذ صعود وحش الخصخصة فى مصر بداية التسعينيات، معاناة واعتصامات مستمرة من العاملين لتتدخل الدولة من أجل عودة المصنع إلى سابق عهده.
"الأهرام" كان هناك، قضى يوما كاملا فى المصنع ومع العمال، تجول واستمع إلى آهات عماله، وأحوالهم، وصمت المعدات وأنينها، وكانت الكلمة الدائمة هى " الفحم" حتى نعمل.
حين تسير فى المصنع، ستذهلك مساحاته الشاسعة، 1700 فدان، مبان مترامية الأطراف، مقسمة قطاعات مختلفة: المناجم ـ التلبيد ـ الأفران العالية ـ الصلب الأكسوجينى الصب المستمر ـ الدرفلة على الساخن ـ درفلة الكتل والقطاعات ـ الدرفلة على الباردـ التشكيل على البارد0
مشروع متكامل، كان الأوحد فى الشرق الأوسط، وسدد تكاليف إنشائه فى ثلاث سنوات، طالته يد الإهمال والتدمير، وحقق فى النصف الثانى من عام 2013 خسائر قدرت بـ 519 مليون جنيه، وتعمدت الحكومات السابقة أن يظل على حاله، لتجد المبرر للتخلص منه، لكن المصنع استمد قوته من اسمه، فصار صلبا لا يلين أمام محاولات خصخصته، ولكن سنوات الإهمال تركت الصدأ يلف جنباته وحدها المبانى والمعدات المتهالكة تنبئك، بما فعلته الدولة بهذا الصرح، حولته من مصنع إلى متحف، خطوط السكك الحديد زحف عليها التراب لقلة الإنتاج، أطنان الخردة التى تملأ جنبات المصنع، ناقلات الحديد المصهر الصدئة، كلها حكايات عن سد حلوان العالي.
أزمة الفحم
«المعدات بقالها ميت سنة، ومع ذلك فيه لغة بينها وبين العامل بيعرف ينتج منها» هكذا يحدثك محمد عمر القيادى العمالى والنقابي، ويضيف «الفحم أهم حاجة، من ثلاث سنين لايوجد فحم كفاية»، ويؤكد أن المصنع إذا عمل سيحقق أرباحا عالية، «عزيز صدقى رئيس الوزراء الأسبق فى عهد عبد الناصر قال إن المصنع حقق تكاليف بنائه بعد ثلاث سنين من إنشائه».
ويلخص عمر مشكلة المصنع فى عدم وجود فحم يكفى منذ ثلاث سنوات، حيث انخفض حجم توريدات فحم الكوك المورد من شركة النصر لصناعة الفحم، وكان نتيجة ذلك هو توقف الأفران العالية وارتفاع معدل بطاناتها، وبالتالى توقف أفران الدرفلة التى تعتمد على الغازات الناتجة من الأفران العالية بعد توقف 3 أفران من إجمالى 4 أفران، لينخفض حجم الإنتاج النهائى المعد للبيع خلال العام المالى 2012/ 2013 ليبلغ نحو 279 ألف طن، مقابل 447 عن 2011/ 2012 ونحو 755 ألفا عام 2010.
ويشير عمر إلى أن الأزمة التى نعانيها أكثر هى تقادم معدات وخطوط الإنتاج وافتقارها إلى نظم التشغيل والتحكم الحديثة، مما يؤدى إلى استهلاكها للطاقة بكثافة، وأصبحت هذه الوحدات فى حاجة إلى الإحلال والتطوير لكثرة أعطالها وانخفاض قدرتها الإنتاجية، إضافة إلى أن الغالبية العظمى من العاملين تزيد أعمارهم على 45 عاما، ونحو 4 آلاف من إجمالى 11700 تتراوح أعمارهم بين 25 و40، وهذا يشير إلى فجوة كبيرة، فلا توجد فئات عمرية فى الصف الثانى والثالث، لانخفاض المستوى الفنى للعمالة الحديثة فى حين يشكو محمود محمد من قطاع الصلب من قلة العمالة المدربة" ناس كثيرون خرجت معاش.. ولا يوجد تعيينات جديدة"
فى قطاع الخردة، يتحدث الشاب الثلاثيني، رافضا ذكر اسمه، بأن لدى الشركة حوالى مليون طن خردة، وهى تُباع على أنها تراب، وبسعر التراب فعلا، على حين أنها تشتمل على حديد زهر، وقطع حديد صغيرة، ويتم بيع الطن بـ 70 جنيها، ولا يتم إعادة تدوير لها.
المشروع الحلم
كمال عباس المنسق العام لدار الخدمات النقابية بحلوان وأحد عمال الشركة، قال إن الحديد والصلب مثله السد العالى ومجمع الألمونيوم فى نجع حمادي، يشكل مفهوم الدولة الحديثة والصناعية، وكان مجمع الحديد والصلب حلما، مثله مثل مشروع طلعت حرب، وبدايته كانت بشراكة ألمانية، ثم أصبح مع الروس ينمو بشكل كبير، وكان يزوره عبدالناصر سنويا، وجمع العمال من السبتية وشبرا، والحاصلين على الدبلومات، وكان التدريب على أعلى مستوي، فى المصنع، ومعهد التكنولوجيا، لمدة عام دراسي، ثم يتم إيفاده إلى روسيا، فأصبحت هناك مجموعة من الكوادر على أعلى مستوي، وفى المقابل أصبح مصنعا ومدينة وهى مدينة الحديد والصلب، وعلى المستوى المهنى كان له مركز تدريب خاص به، ومعهد بحوث الفلزات، ما يشبه المحطة العلمية الكاملة ويشير عباس إلى المصنع هو الوحيد بمصر بل حتى السبعينيات كان الوحيد بالشرق الأوسط، ولكنه تعرض لما تعرضت له كل أحلام التى حققتها مصر، وبدايتها 74 والسادات، ما سمى بمرحلة الاقتصاد المشترك، ثم مرحلة صندوق النقد مع بداية التسعينيات، وبدأ بيع مصانع القطاع العام، خاصة الرابحة وليست الخاسرة، أو "تخسيرها"، ولكن هذه المحاولات لم تنل من الحديد والصلب، فبدأ التخلص من بعض القطاعات المساعدة، مثل ورش قطع الغيار وورش الهياكل المعدنية، لتدميرها.
ويروى كمال أنه فى 1981 زار مصر إسحاق نافون رئيس إسرائيل وطلب من السادات أن يزور مصنع الحديد والصلب فى حلوان، وكان أنيس الشكعة رئيس القطاع الطبى الفلسطيني، قد شارك فى بناء المصنع ومع ذلك تم منعه فى هذا اليوم، وفى اللحظات الأخيرة تم إلغاء الزيارة، وبسببها أيضا، تم إلقاء القبض عليّ.
ويبدو- كما يشير كمال عباس- إلى أن النية اتجهت إلى تدمير هذا المكان، ففى التسعينيات لقى إهمالا كبيرا فى الإدارة، وصرف الانتباه عن التحديث، وتوقف التدريب تماما، وتم الاعتداء على أراضيها، وإنهاء أعمال الخبراء الروس والحال الآن أن ما يحدث يمهد الى الإغلاق، فمشروع إنقاذ الحديد والصلب إن لم يتم خلال سنتين سينهار تماما، وهو يحتاج أربعة مليارات، وشركة تاتا ستيل البريطانية قالت 650 مليون دولار.
الفحم مكون أساسي
فى تفسيرها لرفع العاملين عند زيارة رئيس الوزراء " الفحم ياريس" تقول المهندسة آمال حسين مدير عام التخطيط والمتابعة بالشركة إن الفحم مكون أساسى وهو مادة أولية من مواد الانتاج، مثله مثل خام الحديد، ويتم توريده من شركة النصر لفحم الكوك، وهو يمثل 40 % من تكلفة الإنتاج، ولأن المصنع يعتمد على تكنولوجيا الأفران العالية، فهى تحتاج لفحم الكوك، لأنه مادة مختزلة ومصدر للطاقة فى الفرن، وبدون هذا الفحم لا تعمل الأفران.
فمقولة " الفحم ياريس" لأنه هو روح المصنع، فتوريدات الفحم انخفضت من 2000 طن يوميا إلى 350 طنا يوميا، والفرن لا يقوم من غيرها، وهى المشكلة الآنية التى غطت على كل المشاكل الرئيسية السابقة، فمنذ سنين بعيدة وهناك مشاكل فى الإدارة والإنتاج ولكن كان وجود الفحم يغطى عليها، الآن لا يوجد فحم من الأساس،والمصروفات ثابتة، وكل يوم عمل هو بالخسارة، فالتوريدات انخفضت خلال الـ 3 سنوات السابقة.
والفحم له مشكلتان الأولى انخفاض التوريدات وهذا ناتج من بطاريات شركة النصر، فهناك أربع بطاريات واحدة خرجت من الخدمة تماما، وثلاث تحتاج صيانة جسيمة، وبدأوا فى برامج الصيانة، واستعانوا بخبراء، قاموا بعمل عمرات للبطاريات، وهناك مشروع لعمل بطارية جديدة وتوقفت بسبب التمويل أما المشكلة الثانية من وجهة نظر المهندسة آمال فهى السعر، فالحديد والصلب، مرتبط بتعاقد للتوريدات وتغير فى 2005، وكان بروتوكول تفاهم، ما بين رؤساء الشركتين، وكانت شروط مجحفة جدا، والبرتوكول ألزم تكلفة الاستيراد، وتكلفة التشغيل وهامش ربح من 4 الى 6 %.
والحل كما تقول: واقع الحال أن هناك مديونية كبيرة لمصنع الفحم، ولابد من تدخل الدولة نفسها، فطاقة شركة الكوك ألف طن يوميا، ونحن نحتاج ألفا و500 يوميا، فنقطة التعادل بين المصروفات والايرادات ، ولابد من استخدام موانيء ومرافق شركة النصر، وخطوط النقل من خلال التأجير.
ونحن نستخدم تكنولوجيا الأفران العالية لأنها مناسبة للفحم، فالخام المصرى يعانى مشاكل فهى متوسطة فى الجودة، وفيها شوائب ضارة، والفرن العالى هو أنسب وسيلة للتعامل مع هذه الخامة.
ويوجد 4 أفران عالية منذ الخمسينيات، اثنان ألمانى وهما ما بدأ فى المصنع من مخلفات الحرب العالمية الثانية، فى أوائل الستينيات تم إضافة فرنين كبيرين، والذى يعمل هو الثالث وهو يسبب مشكلات كبيرة، ومن المفترض أن يعمل على مدار الـ 24 ساعة، ولكن نتيجة عدم وجود فحم يعمل ثلاثة أيام فقط، ويعمل بـ 40 %من طاقته، وفرن 4 جاهز للتشغيل يحتاج فحما فقط، وفرن 2 يحتاج صيانة بسيطة.
وتشير مهندسة آمال إلى أن مجمع الحديد والصلب، ينتج كل خدماته، فلديه ورش قطع الغيار والمعالجة الحرارية، تنتج كل ما تحتاجه من قطع الغيار، وتكلفتها الانتاجية تغطى مصانع حلوان، ومحطات انتاج الاكسوجين والنتروجين، وورش إصلاح القاطرات والسيارات والنقل الثقيل، وخطوط سكة حديد، وغيرها، وحتى نتخطى هذه المشكلات لابد من هيكلة الشركة، فهناك دراسات عديدة للشركة اهمها دراسة البريدج ستيل ( تاتا حاليا ) سنة 2000ولكن كانت الدراسة بهدف الخصخصة فقط، ودراسات الهيكلة كانت مهتمة للعمل على خصخصتها، وكان الهدف فصل الإنتاج الخدمى عن انتاج الصلب لضبط التكاليف، وضم شركة الكوك للحديد والصلب، وتطوير الوحدات الانتاجية وتقليل أفرادها، والأزمة الهيكلية ان الوحدات الإنتاجية طاقتها منخفضة ومعدل استهلاكها للطاقة عال، وينشأ عنها عدد من المشاكل: أهمها زيادة تكلفة المواد الخام وزيادة تكلفة الطاقة وزيادة العمالة، ورفع الطاقة الإنتاجية للمعدات يُخفض عددها ويزود أداءها.
واليوم كما تشير المهندسة آمال فإن التطوير متوقف منذ أكثر من 25 سنة، والتعيين متوقف ، ولم تأخذ الشركة من توصيات شركة تاتا سوى تخفيض العمالة بينما التطوير لم يقتربوا منه، وبالتالى فإن التكلفة عالية جدا، فالتكنولوجيا الحالية متخلفة وتحتاج إلى تكلفة عالية من صيانة، وليس هناك رؤية أو استراتيجية خلال السنوات الماضية ، فقد استعصت الشركة على الخصخصة، وللأسف ليس لدى الحكومات خطة واضحة فالخسائر كادحة، فلابد من توفير الفحم بسعر عادل، وملاحظة قلة الكفاءات، ، فهناك عجز فى الكفاءات، وتهالك فى الوحدات، ولابد من تأهيل محطة الاكسوجين والأفران وماكينات التلبيد، وأنظمة التحكم، ومحطات الكهرباء وغيرها، فالهدف ليس إنشاء وحدات، بل تأهيل الموجود.