رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

موتوا .. قبل أن تموتوا

سهيـر حلمـى
فرسان المحبة العارفون الواصلون من أولياء الله يؤثرون الإشارة على العبارة .. يفضلون التلميح عن التصريح .. يتبعون ما تهتف به خطرات القلب .. طريقهم للوصول لابد أن تتطهر منه النفس من الشهوات والمتع المادية ..

بالتبتل فهم ينشدون نوراً لذلك هم يرون الأشياء بعين وأذن وصمت بليغ لا يتأتى إلا لكل من تعرض لحالات الوجد والغيبة والدهشة والاضطراب، إنهم الصوفيون الذين راقت نفوسهم وتحدث بعضهم بعد إفاقته من سكرته بالعلم اللدنى الذى خص الله به بعضا من عباده. أحوال ومواجيد ومقامات ومسالك وتوبة ومجاهدات وخلوة وعزلة ورع وزهد وحجب وإيثار وقناعة وصبر ورجاء وشوق وكرامات وصل ثم فصل .. ثم تأتى المرحلة التى يصبح فيها الفرد إذا ارتدى هذا الاهاب الخشن والخرقة الممزقة معنوياً .. ينطبق عليه قول الصوفيين : «العبد إذا تخلق ثم تحقق ثم جذب .. اضمحلت ذاته وأخرج ما كان مخبئاً فى محارة قلبه أى تخلق وتحلى بمذهب الأكابر ».. ويتلخص فى عدم الشكوى إلا لله «وإذا سألتم الله فاسألوه العافية» عند هذه المرحلة يبدأ التحلى والتخلى والتجلى ثم المكاشفة .. وما قد يفيض به الرحمن من كرامات قال الشيخ الأكبر ابن عربى :

هم الأعزا لا يدرون أنهم هم وهم ولا ما هم إلا إذا ماتوا

رأيتهم وسواد الليل يسترهم عن العيون قياماً كلماً ماتوا

فكف بالشمس لو أبدت محاسنهم أقسمت بالله أن القوم ما ماتوا

بدأ التصوف الإسلامى بعد عام 40 هـ واتسم بالزهد وأخذ النفس بالشدة والتقشف والورع خوفاً من النار وطمعاً فى الجنة .. حتى أن الإمام الشعرانى قال عن الحسن البصرى : « غلب عليه الخوف حتى كأن النار لم تخلق إلا له « حتى جاءت رابعة العدوية بما لم يأت به الأوائل .. تلك العابدة المتنسكة لتنثر أريجها الذى سيستمر عبقه من بعدها مئات السنين .. فكانت أول من استعمل لفظ « الحب « فى العشق الإلهى مستندة إلى الآية التى وردت فى سورة المائدة : « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه « وكان شعرها البديع :

أحبك حبين : حب الهوى وحباً لأنك أهل لذاكا

فأما الذى هو حب الهوى فشغلى بذكرك عمن سواكا

وأما الذى أنت أهل له فكشفك لى الحجب حتى أراكا


وها هى تسترسل فى سرد حيثيات هذا « الحب » وتلك الكلمة التى استحدثتها فى المعجم الصوفى « ما عبدته خوفاً من نار ولا حباً لجنة فأكون كالأجير السوء بل عبدته حباً له وشوقاً إليه « فشاعت لفظة الحب من بعدها فى أشعار الصوفيين وأقوالهم .. ويعد ابن الفارض ( 576 هـ - 632 هـ ) من أبرز من اتبعوا خطاها فهو الصوفى المصرى المولد والممات .. الشامى الجذور .. عاش فى جبل المقطم فى وادى المستضعفين ويعد ديوانه على ضآلة حجمه تحفة أدبية فى أدب التصوف فهو مليء بالإشراقات فصاحبه كانت له مكاشفات يعد بعضها من الكرامات .. لأنه صوفى متحقق كما يقال .. وإن كانت كراماته لا تقارن بكرامات الحلاج وابن عربى .. عند الصوفية تدعو إلى الغيبة التحلل من التمركز حول الذات .. فالأنا لم تخلق لكى تكون (محبوبة) ولكن لكى (تحب) تتعرض هذه الأنا للتلاشى والزوال بالمجاهدة والتأمل وترك الشهوات وإماتة هواها .. والقضاء عليها معنوياً وإماتتها بالتفانى فى الطاعات والمحبة والإخلاص فى العمل لوجه الله .. وذلك إعمالاً للآية الكريمة «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم» فالمتصوفة يتخذون من هذه المقولة التى يعدها البعض حديثاً شريفاً ضعيفاً .. بينما ينسبها البعض لعلى بن أبى طالب – يتخذونها شعاراً – « موتوا قبل أن تموتوا « وفقاً لما تقدم .. ويزيدون عليها الحذر من الغفلة فى عرفهم «من نام غفل .. من نام حجب» فهم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع .. ومن كان ميتاً بالجهل أحياه الإيمان وأصبح متحرراً من عبودية تصوراته .. يصبح حكيماً يدرك سر ثنائية الحياة .. كل ظلام بداخله ضوء وكل عدل يغشاه بعض الظلم وتسمى هذه المرحلة «الخيرات» ويعيش المتصوف الحقيقى فيها باندهاش لا ينقطع فى تناغم مع الحياة لا يتسرب من خلاله ملل فكل شيء قابل للتأمل .. المحبة وحدها تصنع ذلك فى البداية تتسع بحيرتها وتفيض بالماء ولكن إذا ترك بدون حركة أصبح راكداً أسناً .. لذلك لابد من تطوير وتوسيع وتجديد نهر الحب بإفاضاته على الآخرين ..

كتب ابن الفارض قصيدته «نظم السلوك» وكان يغيب عن الوعى ثم يفيق ليمليها كاملة .. وتستغرق هذه «الجذبات» التى يغيب فيها عن حواسه أحياناً نحو عشرة أيام .. لذلك كثيراً ما تشتمل هذه الأشعار على قدر من الغموض الذى يحيلها أحياناً إلى ألغاز ولم يكن هذا الأمر وقفاً على ابن الفارض وحده فى «تائيته الكبري» .. ولكن كانت المشقة والفساد والاستغراق الكامل قدر كل الشعراء فالطريق إلى الله محفوف بعدد أنفاس الخلائق.

وهذا الحلاج يؤكد بأسباب من العشق الإلهى معانى ستتخذ فى عصور لاحقة مبرراً للعشق الشرعى فينظم :

والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسى

ولا جلست إلى قوم أحدثهم ألا وأنت حديثى بين جلاسى

ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالاً منك فى الكأسى

أما ابن عطاء السكندرى فقد تجلت حكمه وسواطع أنواره فى عطائياته الشهيرة « رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكبالاً»

الصوفى تنجذب روحه إلى أعلى وتهبط نفسه إلى أسفل ومن خلال هذه الحركة تتجلى آيات رقص المولوية .. فهو سكن للنفس وتحليق للروح فى الملكوت الأعلى ولسان حال الراقص يقول وحياة أشواقى إليك وحرمة الصبر الجميل .. ما أبصرت عينى سواك ولا صبوت إلى خليل.

يتعرض بعض الصوفيين لشطحات الغناء وما يرتبط به من مبالغات نتيجة للغيبة عن النفس وصعوبة التعبير أحياناً عن بعض الحقائق فيلزم الصوفى الصمت .. فالقلب يصل إلى مرحلة لا يتسع فيها المجال للحديث والذكر معاً .. ومن أروع ما نظمه ابن الفارض بيتاً شعرياً قيل أنه أجمل ما كتب فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعلى تفنن واصفيه تحسبه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

أما رصيده الشعرى فجمع فى كثيره بين الحب الإنسانى والإلهى :

ته دلالاً فأنت أهل لذاكا تحكم فالحسن قد أعطاكا

لم يحب سلطان العاشقين الله طمعاً فى جنته أو خوفاً من ناره ولكن ابتغاء نظرة من وجهه الكريم ، كما عبر بلسان حاله.

يجتاح العالم أجمع نزعة صوفية فى الموسيقى والأغانى الصوفية وفى دراسة حديثة لمركز دراسات « سوشيال بيكرز» المتخصص فى الإحصائيات المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعى .. جاءت النتائج لتضع باكستان فى المركز الأول للدول التى تحظى بأكبر قدر من الإعجاب بالاتجاهات الصوفية 38.5% تليها الهند 18% ثم الولايات المتحدة وبريطانيا وبنجلاديش ثم اندونيسيا والإمارات العربية وأخيراً مصر.

يحفل فيس بوك بصفة خاصة بمئات الصفحات عن الصوفية وكل ما يتعلق بها من موسيقى وأغان وأشعار وتاريخ وسير وتراجم ذاتية وصور، ويبدو أن الأحداث التى يمر بها العالم من فتنة طائفية وتنامى خلافاتها خصوصاً فى منطقة الشرق الأوسط .. واتجاه آسيا بحكم طبيعة أديانها للتوافق مع العالمين «الإسلامى والمسيحي» فى إطار التقارب الاقتصادى والسياسى الذى نجم عن العولمة .. كل ذلك أدى إلى البحث عن وحدة الأديان فى أشعار ابن عربى القائل : «الحق واحد والمنهل واحد والمآل واحد والحقيقة واحدة» ومن ابن عربى لحديث فى الحب لا ينتهى فى متتاليات صوفية للحلاج وحافظ الشيرازى وعمر الخيام وشمس التبريزى وانفرد إبداع جلال الدين الرومى من بينهم بنصيب الأسد .. و«بقواعد العشق الأربعون » تلك الرواية التى كتبتها الروائية التركية إيلاك شافات .. وضعت كتاباته فى إطار فلسفة شبه عالمية تعبر عن هذه العاطفة بصورة يفهمها كل من يقرأها بأى لغة .. ومع تصاعد قواعد اليوجا التى تدعو بعض قواعدها لقتل الرغبة فى الحياة المادية حتى لا يكون الإنسان عبداً لرغباته لكن مع احترام الحياة وتأملها.

وأخيراً خرج علينا الدلاى لاما بصمته وتأمله الذى يستغرق أربع ساعات يومياً .. مليار صينى هم تعداد الشعب الذى تعادى حكومته هذا القديس الروحى للتبت .. بطريقة جديدة انتشرت مؤخراً فى أمريكا وأوروبا وتعرف « بسبع دقائق من التأمل « عن طريق جهاز صغير مزود بسماعات وكلمة أشبه بالباسورد يستطيع كل شخص ممارسة هذا الفن من الصفاء الروحى .. فمن عرف نفسه عرف الله .. فالهداية تنتقل من روحانى إلى آخر ربما بمعدل أكبر من انتقال الشر من إرهابى لآخر أشد إرهاباً وفى ذلك عزاؤنا .. فالذى يصب هنا يؤثر هناك .. كما يقول ابن عربى «الوجود واحد .. الأصل هو الوحدة».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق
  • 1
    محمود أيوب
    2015/06/26 12:00
    0-
    0+

    ما هذا الجمال
    من أرقى ما قرأت في الصحف المصرية
    البريد الالكترونى
    الاسم
    عنوان التعليق
    التعليق