لا يتطرق إلى معنى التعليم والغاية منه، ولا يؤدي إلا إلى مزيد من تخلف التعليم أو تقنين هذا التخلف في صورة منمقة مطبوعة على الأوراق العديدة التي تنشغل بمعايير شكلانية عن المقررات الدراسية والعملية التعليمية. ولذلك فإن تحقق جودة التعليم له متطلبات وشروط أخرى أكثر عمقًا وأهمية، وسوف أتوقف هنا عند شرطين أساسيين:
لعل أول هذه الشروط أن يكون لدينا تصور واضح عن معنى التعليم الذي نريده والغاية منه، أي أن يكون لدينا تصور عن فلسفة التعليم: فالتعليم ما قبل الجامعي ينبغي أن ينبني على أساس من إعداد جيل مزود بحد أدنى من الثقافة والعلم والمعرفة، بحيث تكون النخبة منه مؤهلة للالتحاق بالتعليم الجامعي في مجال تخصصي ما. فلا ينبغي النظر إلى التعليم قبل الجامعي باعتباره مراحل زمانية يجتازها الطالب كما لو كانت سُلَّمًا يؤدي به إلى مراحل أعلى في درجات هذا السُلَّم من خلال التعليم الجامعي. وإذا كان التعليم قبل الجامعي ينبغي أن يُعنَى- فيما يُعنَى- بالثقافة، فإنه ينبغي أن يهتم بالفنون على سبيل المثال، وبالتالي بتربية الذائقة الفنية والجمالية، بحيث يتم توجيه الطالب إلى المجال الفني (الاختياري) الذي يمكن أن يكون مؤهلاً له: كالشعر والموسيقى والرسم، وما إلى ذلك. بل أرى من الضروري أن يشكل هذا المجال جزءًا أساسيًا من درجات تقييم الطالب؛ لأن هذا المجال- بوجه خاص- هو المجال الذي يكشف بوضوح عن الملكات الإبداعية لدى الطالب، ويمكن أن يمتد هذا التقييم إلى القدرات الخاصة الأخرى في بعض مواد العلوم والإنسانيات (ولقد سبق أن طرحت هذا الرأي في اجتماع وزاري مصغر برئاسة الدكتور حسام عيسي وزير التعليم العالي نائب رئيس الوزراء السابق، وبحضور الدكتور محمود أبو النصر وزير التعليم السابق، ووزير الثقافة الأسبق الدكتور صابر عرب، ووزير الشباب والرياضة الدكتور خالد عبد العزيز، ووزير الأوقاف الدكتور مختار جمعه). ولأن مفهوم جودة التعليم لا يراعي شيئًا من ذلك؛ فإننا نجد أن أوائل الثانوية العامة في بلادنا هم مجرد تلاميذ أتقنوا حرفة الإجابة عن النماذج الجاهزة لأسئلة الامتحانات التي تحتفي بها الصحف في موسم الامتحانات التي هي موسم زيادة المبيعات في هذه الصحف، حتى إنك تجد أكثر هذه الصحف تضع «مانشتات» رئيسة لها، من قبيل: «نموذج الأسئلة التي لن يخرج عنها الامتحان في مادة كذا أو كذا»! ولهذا أرجو أن تخبروني- أثابكم الله- إن كنتم قد سمعتم عن أن هؤلاء الأوائل من خريجي الثانوية العامة في بلادنا- حتى إن واصلوا تفوقهم في مراحل التعليم الجامعي- قد أصبحوا فنانين أو علماء مبدعين أو حتى باحثين مرموقين، اللهم إلا إذا كان ذلك من قبيل الصدفة، وعلى سبيل الاستثناء! ثم إننا ينبغي أن نتساءل عن تلك القسمة في التعليم الأساسي الذي ينتهي بالتلميذ إلى الالتحاق إما بفرع التعليم العلمي أو الأدبي، وكأن الذي يدرس العلوم ينبغي أن تنقطع صلته بالأدب وبالتاريخ على سبيل المثال، دون أن يكون مطلوبًا منه أن يواصل معرفته عن شيء من الفن والأدب، وعن شيء من تاريخ العالم وتاريخ بلده وموطنه في إطار هذا العالم. ولهذا نجد أن الذين يواصلون هذه القطيعة المعرفية حينما يلتحقون بإحدى الكليات العلمية، هم الذين يتخرجون من كلياتهم مفتقرين إلى المعرفة الإنسانية، وإلى المعارف التي تؤسس الوجدان والذائقة الفنية والجمالية. ولهذا أيضًا، فإنه ليس من قبيل الصدفة أن حالات التطرف الفكري والديني، بل الإرهاب باسم الدين، الذي نجده في واقعنا المعاصر ينتشر بصورة أكبر بين طلبة الكليات العلمية! خواء على خواء... هذا حال التعليم في بلادنا. ما يحدث في التعليم قبل الجامعي هو تأسيس لتخلف التعليم الجامعي.
وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن التعليم الجامعي متسائلين عن فلسفته أو معناه وجدواه، فلا تقل لي كما يقول المسئولون والعامة على حد سواء: إن هذا التعليم ينبغي أن يهدف إلى الوفاء بمتطلبات سوق العمل، فمثل هذا النوع من التعليم على أهميته- كما سبق أن نوهنا في السابق- هو أقل أنواع التعليم شأنًا وأيسره جهدًا، وهو في حقيقة الأمر لا ينتمي إلى التعليم الجامعي الأكاديمي، وإنما ينتمي إلى مجالات المهارات والمعارف التقنية التي تُعنى بتأهيل خريجين في مجال ما من هذه المجالات. وأقول- صراحةً ودون مواربة- إن كثيرًا من الكليات والأقسام العلمية بجامعاتنا ليست بكليات وأقسام أكاديمية حقًا، وإنما هي أقرب إلى المعاهد المتخصصة التي تختص بالحِرَف والمهن والمهارات العملية. ولكن هذا النوع من التعليم لا ينبغي أن يكون نموذجًا لفلسفة التعليم في جامعاتنا؛ فالتعليم الجامعي لا ينبغي أن يهدف أساسًا إلى سد حاجات سوق العمل، وإلا فإن هذا سوف يستلزم إغلاق الأقسام العلمية التي تُعنى بالعلوم الأساسية والدراسات النظرية (كما حدث في بعض الجامعات الخليجية)، طالما أن هذه الأقسام لا تخدم متطلبات سوق العمل!
الشرط الثاني فيما يتعلق بمعنى «جودة التعليم» هو شرط يتعلق بتأسيس الأستاذ الجامعي. وليس بخاف على أحد أن الأستاذ الجامعي قد افتقد معنى الأستاذية في يومنا هذا، ومنذ عقود طويلة. لم يبق من الأساتذة الحقيقيين سوى قلة من الأساتذة الذين يبقون على تقاليد الماضي، ويعرفون أن الأستاذية الحقة هي مدرسة خاصة في التعليم، يتخرج منها الحواريون الذين يمكن أن يضاهوا أساتذتهم علمًا، بل يمكن أن يكملوا مسيرتهم، بأن يرتادوا مناطقَ جديدة من المعرفة. كما أن إعداد أستاذ مؤهَّل سيؤدي إلى إعداد طلبة مؤهلين بالعلوم والمعارف الإنسانية، بل سيؤدي إلى الارتقاء بالبحث العلمي الذي هو عماد الارتقاء بالجامعات، و له مردود غير مباشر (من خلال «تطبيق» المعرفة النظرية) فيما يتعلق بخدمة المجتمع والنهوض بالدولة عمومًا، إذا ما أُحسن توظيفه والانتفاع به، بل له مردود مباشر فيما يتعلق بالارتقاء بالعملية التعليمية ذاتها. وهكذا، فإن السؤال الآن هو: كيف يمكن إعداد الأستاذ الجامعي الذي تتجسد فيه معنى «الأستاذية»؟ هذا سؤال بالغ الصعوبة؛ لأنه يتعلق ببناء شخصية علمية وإنسانية، وليس مجرد شخصية مهنية؛ فليست الأستاذية وظيفة أو مجرد درجة علمية تمنحها الجامعات، فكم من الأساتذة حقًا لا ينتمون إلى الجامعات، ويستحقون درجة «الأستاذية» التي تمنحها الجامعات! ولكننا إذا اقتصرنا على حالة «الأستاذية» بمعناها الضيق بوصفها «درجة جامعية» لها صلة بالعملية التعليمية، فسنجد أنها حالة فقدت بريقها، ونالها ما نالها من وصمات تنأى بها عن معناها الحقيقي، حتى اختلط الحابل بالنابل، وأصبح القلة النادرة من الأساتذة الحقيقيين يكادون يكونون ضائعين وسط كثرة هائلة من الحاصلين على درجة الأستاذية دون استحقاق. ولإصلاح تلك الحالة، لا بد من إصلاح السياق الذي أنتجها، وهذا يتطلب إجراءات عديدة، يمكن إيجاز أهمها فيما يلي:
من الضروري إصدار لوائح إجرائية لمواجهة حالة الترخص في منح الدرجات العلمية، بدءًا من درجتي الماجستير والدكتوراه، وحتى درجة الأستاذية وما قبلها. ومن ذلك على سبيل المثال: أن تكون لجان التحكيم سرية، وأن يقوم بتشكيلها لجنة عليا محايدة في كل تخصص، على أن تنطوي كل لجنة تحكيم على محكم واحد- على الأقل- من خارج مصر، وأن تقتصر مناقشة الباحث المتقدم لدرجة علمية ما، على استعراض تقارير المحكمين وإتاحة الفرصة للباحث للرد على ما جاء فيها.
ومن الضروري أيضًا ألا يُسمَح بترقية باحث في أي مجال، ما لم ينشر بعض من بحوثه في مجلات علمية مرموقة محكمة خارج مصر، وهناك تصنيف دولي متعارف عليه لهذه المجلات. فمن المعروف في عصرنا هذا أن سبيل الترقي في جامعاتنا قد أصبح سهلا ميسورًا: أن يقدم الباحث بحثه الضعيف للنشر في إحدى مجلات الكليات الجامعية الإقليمية التي أصبحت وصمة في جبين النشر الجامعي (وهي وصمة لا تخلو منها تمامًا الجامعات الكبرى). بل أحيانًا يكتفي الباحث بتقديم شهادة من وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا بأن بحثه مقبول للنشر، فإن استوفى تلك الإجراءات الشكلية، لجأ إلى أساتذته لتمرير بحوثه الهزيلة في لجان الترقيات من خلال التوصيات ومراعاة الخواطر.
والأكثر ضرورة من هذا كله، المواجهة الحاسمة- من خلال إجراءات حاسمة- لحالات السرقات العلمية التي تفشت في جامعاتنا: فكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه والبحوث التي يتم إجازتها هي دراسات مسروقة من كتابات الآخرين صراحةً أو ضمنًا. ولقد تعرضت أنا شخصيًا للسرقة العلمية من كتاباتي ودراستي، ونشرت ذلك في الصحف عبر سنوات عديدة بح فيها صوتي، فكان الباحث اللص يصمت غالبًا إلى أن تمر العاصفة. بعض هؤلاء اللصوص أصبحوا الآن أساتذة يعلمون تلاميذهم فنون السرقة العلمية! أما أغلب البحوث الجامعية الآن، فهي بمثابة سرقات علمية لا تقع تحت طائلة القانون (المعطل أصلاً) في تجريم السرقات العلمية، وإنما تقع تحت طائلة القانون الباطني الذي يحكم أخلاقيات البحث العلمي؛ أعني أن الباحث الآن غالبًا ما ينقل عن الآخرين كل ما يكتبه دون أن يقول شيئًا، وكأنه يكتب المكتوب من قبل، ويقول ما سبق قوله، بل إنه لا يُحسِن انتقاء ما يعيد كتابته وقوله!
هذا كله مجرد غيض من فيض، فلقد اتسع أمر الإصلاح علينا اتساع الخرق على الراتق. ولكن هذه الملاحظات أراها ضرورية، سواء كنا نسعى إلى رتق الثوب أو استبداله بثوب جديد. وتلك الأمور جميعها- وغيرها كثير- ليست في مخيلة القائمين على شأن جودة التعليم في مصر.