رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

دولة الإتقان

نهوض مصر ووقوفها على قدميها ثابتة كالجبل مشروط بتحولها إلى دولة اتقان فى كل شيء، وبدون ذلك سنكون مثل مَن يحرث فى البحر، وسنظل محلك سر ، نندب حظنا العاثر، بينما يسبقنا من حولنا على مضمار التقدم والتحديث. وإن كان للاتقان من عنوان فسنجده فى ألمانيا، هذا البلد المهووس لحد الجنون ببلوغ الحد الاقصى من الاتقان فيما يقوم به وما ينتجه، فلا مكان للمتقاعس، والمتخاذل، وتقديم اهل الثقة على الاكفاء القادرين على الاداء والقيادة والعطاء، ومَنْ يحاربون الابداع ويقتلونه فى المهد بدلا من احتضانه ورعايته.

والتجسيد العملى لهذه المعانى وغيرها ستعثر عليه فى تجربة شركة «سيمنز» التى وقعنا معها قبل أيام عقود انشاء ثلاث محطات للكهرباء، حيث سنحت لى فرصة التجول فى مصنعها لانتاج التوربينات فى برلين الأسبوع الماضي، خلال زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى العاصمة الالمانية. وعند اقترابك من بوابته لا يوجد ما ينم عن أنك توشك على دخول مصنع ضخم مقام على مساحة 130 ألف متر مربع ـ المبانى تشغل 68 ألف متر مربع فقط ـ، فلا سيارات نقل تحيط بأسوار المصنع تنتظر تفريغ أو تحميل البضائع والمواد الخام، ولا تكدس للعاملين على الأبواب، ولا عربات تبيع الأطعمة والسجائر وخلافه، ولا دخان يتصاعد فى سماء المنطقة ويخنق القاطنين بجواره، فالهدوء سيد الموقف فى الشارع وداخل المصنع الواقع وسط برلين.

ولمست عن قرب مدى وقدر الدقة والنظام فى كل حركة وهمسة، منذ اللحظة الاولى لدخولي، فلا مجال للعشوائية ولا للصخب والضجيج، على الرغم من أن عدد العاملين بالمصنع قرابة 4 آلاف شخص، وكذلك الحرص على التراث وعدم التفريط فيه، متمثلا فى مبنى عتيق عمره 102 عام اقيم إلى جانبه العديد من المبانى الادارية والعنابر مع الابقاء عليه كرمز اصيل يؤرخ لمراحل التطور التى شهدها، والاستثناء الوحيد من حظر التصوير كان أمام هذا المبنى الذى كانوا يتحدثون عنه بافتخار واعتزاز شديد، وسمحوا لنا بالتقاط الصور التذكارية عنده.

قارن هذا التصرف بتدميرنا لتراثنا المعمارى والثقافى واستبداله بكتل خرسانية بلا روح ولا مذاق، وتجول فى أحياء مصر القديمة وتحسر وابك على كنوزنا المعمارية من البيوت والمساجد والأسبلة التى اهملناها وتركناها عرضة للسرقة والنهب، وانظر إلى حال معابدنا الفرعونية وحصارها بالعشوائيات، فمَن يفرط فى ماضيه لا يمكن أن ينعم بحاضر ومستقبل واعد، فتلك سلسلة متصلة حلقاتها لا يمكنك الفصل فيما بينها. لمست أيضا الاكتراث الفائق بإعداد كوادر عبر السماح بتدريب 270 طالبا فى قطاعات المصنع، فهؤلاء الطلاب يكونون تحت عين المسئولين الذين سوف يسهل عليهم اختيار مَنْ يصلح منهم للعمل عقب تخرجه فى الجامعة أو المعهد الذى يدرس فيه، فمثل هذا الاجراء يزود «سيمنز» وغيرها بثروات بشرية معدة ومدربة جيدا.

والعائد تراه فى القائمين على عمليات تطوير التكنولوجيا المتقدمة المستخدمة فى التوربينات من الشباب الذين يحصلون على فرصتهم الكاملة فى اثبات حضورهم ومواهبهم وطاقاتهم، وتابعت ذلك عند مشاهدة ماكينة الطباعة ثلاثية الابعاد ـ هكذا يسمونها ـ لأنها مسئولة عن الصهر بالليزر الانتقائى لتصميم وتشطيب أجزاء بعينها فى التوربين كالشفرات، واحسست اننى اطلع على سر حربى لأن هذه الماكينات متقدمة للغاية ويوجد منها ثلاث فقط واحدة فى برلين، وأخرى فى لندن، والثالثة فى كوبنهاجن، وتتولى مجموعة من الشباب النابهين مشقة العثور على توليفة المعادن المستغلة فى تصنيع أجزاء التوربينات، وتستغرق المهمة نحو خمس سنوات.

وكم آمل أن تتضمن الاتفاقيات الموقعة بين مصر وسيمنز على بند يخص التدريب ليس للعاملين فى المحطات الثلاث المزمع تشييدها ولكن للعاملين فى مجال الطاقة بصفة عامة للاستفادة من الخبرات المتراكمة لدى الشركات الالمانية، وفى مقدمتها سيمنز، فالتدريب كفيل بتوفير وقت وجهد كبيرين، ويقصر المسافات الطويلة. ولا ننسى أن الشباب الالمانى يحظى بفرصته كاملة بدون ضغوط ولا مطالبات من الدولة وقواها السياسية والاجتماعية لأنه تم تأسيسه تعليميا بشكل سليم، فجودة التعليم تتيح له صقل قدراته وابرازها، فالتخطيط للتعليم يراعى فيه احتياجات المجتمع والاقتصاد من التخصصات المتنوعة، وبالذات التعليم الفنى الذى يُنظر إليه فى مصرنا بكل أسف حتى الآن نظرة متدنية مع أنه سر من أسرار تقدم وتطور دول كألمانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، شريطة توظيفه فى الاطار الصحيح الذى يخدم الدولة ومشاريعها المستقبلية.

ورأيت ثمرة التدريب والاعداد فى مركز الاختبارات التابع لمصنع سيمنز، ولك أن تتصور أهمية وحيوية المركز المنوط به اعطاء شهادة جودة المنتج قبل ارساله للعميل، فنحن إزاء توربينات عملاقة فلا يجوز تركيبها فى محطة بمصر مثلا، ثم يتضح أن بها عيوبا، فهى تخضع أولا للاختبار بالمركز، ولدى اجراء الاختبار يتابعه مهندسو سيمنز فى العالم من خلال الفيديو كونفرانس لتعميم الفائدة وتلقى الاقتراحات.

وقد شاهدت تفاصيل اختبار لأجهزة الاحتراق بالتوربين ـ التوربين الواحد فيه 24 وحدة احتراق ـ فى مركز يقع على بعد 40 كم من برلين ويعمل فيه 25 شخصا فقط، ويوصف بأنه صديق للبيئة، فلا تصدر عنه ملوثات ولا ازعاج ولا أصوات لوقوعه فى قرية يسكنها نحو عشرة آلاف نسمة، وبدأ تشغيله فى مارس الماضى بتكلفة بلغت 100 مليون يورو. وعندما استفسرت من المسئولين بالمركز عن كيفية اختيار العاملين فيه قالوا إنه يتم وضعهم لعام ونصف العام تحت الاختبار لمعرفة امكاناتهم بعدها توقع عقود تعيينهم بعيدا عن المحسوبية والواسطة. إن دولة الاتقان تنادينا.. فهل من مجيب يستوفى شروطها واستحقاقاتها؟


لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي

رابط دائم: