بعد أيام قليلة من استقالة سيب بلاتر رئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم ، كتب جيفرى ساكس الخبير الدولى فى التنمية ومدير معهد الأرض بجامعة كولومبيا الأمريكية عن خطر انتشار ثقافة «الافلات من العقاب» التى استشرت فى كل المجتمعات تقريبا وليس أدل على وجود الظاهرة فى قلب المجتمعات التى تتغنى بالشفافية من القبول بمبدأ اعادة انتخاب الرجل للمرة الخامسة على قمة الكرة العالمية رغم غياب معايير الاستقامة والنزاهة واحتقاره للقانون فى التصويت الذى تابعه العالم فى ذهول وانتهى بتصويت 133 دولة لصالحه لكنه تراجع وقدم استقالته بعد أن دخلت الولايات المتحدة على الخط وقررت اختفاء بلاتر عن الساحة الكروية ولولا تدخل دولة بثقل أمريكا لظل الرجل متربعا ورجاله على عرش ماكينة بمليارات الدولارات تدر أرباحا طائلة لأفراد وشركات وجماعات مصالح تمتد فى القارات الخمس. تعريف «الافلات من العقاب» Impunity هو القدرة على التصرف أو الفعل دون توقع عواقب سلبية أو بمعنى أدق التصرف دون حسيب أو رقيب.
لم تكن حالة «الفيفا» هى الوحيدة فى السنوات الأخيرة، فالكارثة المالية فى «وول ستريت» لم يٌحاسب عليها أحد واستمر رجال الشركات المتورطة فى جنى أرباحا ومكافآت طائلة بعد سنوات من الأزمة الكبري، وهناك حالة تربح مؤسسة كلينتون من تبرعات الأثرياء والشركات الأجنبية التى لا تعطل مسيرة هيلارى كلينتون فى الترشح لرئاسة الولايات المتحدة فى الانتخابات المقبلة. وعلى المستوى الدولي، هناك جمعيات تطارد من أفلتوا من العقاب بعد مذابح التطهير العرقى فى رواندا وبروندي. ويرى ساكس أن «الافلات من العقاب» يتحول الى أمر طبيعى فى بعض المجتمعات ويصبح سلوكا معتادا ويتقبله الرأى العام، خاصة فى أوساط العامة، دون اكتراث بالجرم وأهمية العقاب وهو ما يعنى أن يتمادى الفاسدون فى سلوكياتهم وتصبح قيم الشفافية إرثا من الماضي. ووفقا للاقتصادى المرموق فقد أظهرت دراسات حديثة أن الأداء الاقتصادى يتحسن وترتفع مستويات الرضا عن الحياة فى أى مجتمع عندما تكون «الثقة العامة» مرتفعة ويضرب مثالا بالدول الاسكندنافية التى تشهد مستويات متقدمة من النمو الاقتصادى لفضل الانتصار لقيم الشفافية والمساءلة على نطاق غير موجود فى الدول الأخري.
واحدة من مشكلات مصر هو قدرة البعض على الالتفاف حول القوانين وقدرة الفاسدين فى الجهاز الادارى على تمرير أشياء لا يمكن التغاضى عنها أو السكوت بشأنها وسهولة الافلات من العقاب المؤسسى فى ظل تحالف واسع من الفاسدين والكسالى وأصحاب المصالح وعديمى الكفاءة .. وحسب التوصيف السابق فقد تحولت حالات الانتهاك الصارخ للقانون الى حالة عامة يراه الناس أمامهم ولكنهم لا يملكون القدرة على الفعل أو التأثير بعد أن تسربت فى نفوسهم أن تلك هى طبائع الأمور وهو ما يهز من »الثقة العامة« التى تحدث عنها الاقتصادى الشهير! وأكثر ما يتمناه المستعدون دائما للافلات من العقاب هو وصول الرأى العام الى قناعة بأنهم «محصنون» فى مواجهة سلطة القانون ويتساوى فى الافلات من العقاب سياسيون ورجال أعمال وموظفون عموميون ومصرفيون ورياضيون وفنانون وأناس عاديون يملكون حظوة أو مالا يمكنهم من الالتفاف حول الصالح العام.
فى استشراء ثقافة «الافلات من العقاب» عواقب وخيمة على المجتمع فهى لا تهز فقط الثقة العامة، ولكنها تخلق أجيالا جديدة أكثر قابلية للتعايش مع الفساد ماداموا يرون غيرهم يفلت بفعلته، وهو ما أظهرته نتائج دراسة عرضها جيفرى ساكس تقول أن نسبة فى قطاع الخدمات المالية على استعداد للقيام بأفعال غير مشروعة لو ضمنوا عدم القبض عليهم أو توريطهم فى قضايا جنائية وهو مؤشر صاعد فى كثير من المجتمعات نتيجة المكاسب الكبيرة التى تجنيها شبكات المصالح والشخصيات الكبيرة التى لا تقدم للمحاكمة بل تفتح لها أبواب القصور الرئاسية وشبكات التليفزيون والصحف الكبرى ويتصدى كبار المحامين للدفاع عنهم. وفى سبيل المواجهة المجتمعية، يعتقد «ساكس» أن مهمة المنظمات المدنية المعنية بملاحقة الفاسدين وكشف جرائم «الافلات من العقاب» أساسية فى نشر ما يمكن أن يسهم فى فضحهم أمام الرأى العام والابقاء على الثقة قائمة فى مؤسسات القانون وعدم نشر ثقافة اليأس من تحقيق العدالة الناجزة التى لا تفرق بين فئات المجتمع أو بين من يملك المال والسلطة وبين من لا يملك شيئاً.