رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

لحم رخيص

يحكى يوسف إدريس فى رائعته «بيت من لحم» عن شيخ أعمى، تتقاسم رجولته زوجته الأرملة السابقة وبناتها الثلاث، يعيشون حياة فقيرة بائسة، يتكومون محشورين فى حجرة ضيقة، والسر فى «خاتم الزواج» الذى ينتقل فى يسر بين الأم وبناتها، بينما يراوغ «الشيخ الكفيف» نفسه، بأنه «يشك..والشك لايمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر، ومادام محروما منه فسيظل محروما من اليقين، إذ هو الأعمى وليس على الأعمى حرج، أم على الأعمى حرج»..!

نسج يوسف إدريس ببراعة قصة أسرة دفعها الفقر إلى السقوط الأخلاقى، إنها قسوة طافحة، أخطر صورها فقدان الأمل، باعتباره طريقا للانفجار أو الانتحار. تذكرت هذه القصة، الكاشفة إنسانيا ــ اجتماعيا واقتصاديا ــ خلال متابعتى تقارير واردة عن «صندوق النقد الدولى» ــ حامى حمى الرأسمالية والاقتصاد الحر فى العالم ــ انتقد فيها قرار الحكومة المصرية «تأجيل ضريبة الأرباح الرأسمالية» بالبورصة، لأنها «ضريبة عادلة تحسن الإيرادات.. وتأجيلها يحمل الأقل دخلا تكلفة الإصلاح المالي».

شهادة الصندوق «النادرة» أظهرت أن حكومتنا «السنية» تنحاز للأثرياء، على حساب بقية شرائح المجتمع التى تعانى أوضاعا قاسية، 50% من أفراده يقبعون تحت خط الفقر، ويحوز 1% من أهله 48% من الثروة. اختلال رهيب فى توزيع الثروة والقدرة هو «ابن غير شرعي» لتحالف «الرأسمالية الطفيلية والسلطة» فى عصر مبارك، واستمر مع الأهل والعشيرة بعهد مرسي. كان من توابعه، خروج الجماهير فى ثورتين شعبيتين، بحثا عن العدالة الاجتماعية والسياسية المفقودة. وإذا كانت الحكومة تدرك تلك البديهية، فبماذا نفسر توجهاتها: هل رضخت لضغوط فوق طاقتها، أم أصابها «العمي»؟!..الواقع يشير إلى ارتباك الحكومة وارتجاليتها، وغياب الرؤية و«الفلسفة الاقتصادية» لديها، تظهرها خياراتها أقرب أن تكون «حكومة رجال أعمال بالوكالة»، فى أحسن الأحوال!.

وبرغم الاعتراف بأن الغالبية من طبقة الأثرياء يحوزون نزاهة القصد وشرف الإخلاص للوطن، فإن عددا منهم بلا أفق استراتيجي، لايقدرون خطورة أن يسحق الفقر نصف الشعب - وسط عاصفة إرهاب موجه من الداخل والخارج تضرب البلد - أصبح الناس سمكة تهتز، بعدما قذفها الصياد خارج الماء، لاتدرى إلى أين يأخذها الاهتزاز..لايتوقف «الطفيليون الجدد» عن الجشع والعبث بآلام الناس، يستنزفون الجميع، يضغطون هنا، يلقون الكذبة هناك، ككرة اللهب فى حقول القمح، ثم يهربون تاركين لولى الأمر مهمة إخماد النار.. لقد وصف الدكتور سمير رضوان الخبير المرموق ووزير المالية الأسبق الأمر بأنه «ابتزاز» من كبار المساهمين، وأطلق صيحة مدوية فى وجه الجميع: «فلتخسر البورصة ما تخسره، الكل يعلم أن هذا اقتصاد غير حقيقى».

الوضع الاقتصادى صعب، نعم، بل صعب للغاية، لا أحد ينكر ذلك. تحفيز الاستثمار مطلوب، لكنه ليس مبررا لإلغاء ضريبة الـ5% عن الأغنياء، ثم استبدال ضريبة الدمغة على الأسهم، بـ «الضريبة على تداولها»، قبل أن تلحس الحكومة كلامها، دون إعادة «ضريبة الدمغة»، بالإضافة إلى أنها بذلك فتحت بابا جديدا للمضاربة، وأغلقت بابا للاقتصاد الحقيقي. بينما تتحمل الطبقة الوسطى العمود الفقرى للمجتمع ـ والفقراء خفض الدعم لتقليل عجز الموازنة.

الأصوات التى ترى خطوة الحكومة ضرورة لوقف نزيف البورصة وهروب المستثمرين، تنظر للضرائب بوصفها مجرد «جباية أموال»، غافلين عن أنها أيضا أداة تحكم اقتصادى ــ اجتماعى، لتحفيز أو تثبيط أنشطة اجتماعية أو اقتصادية، تحقيقا لمصلحة عليا، مثل رسوم الإغراق على سلع بعينها، لحماية صناعة ما، وهكذا.. دعونا نكن أكثر وضوحا، إن دولة رأسمالية مثل بريطانيا مهد النظرية الكينزية فى الاقتصاد، هى من تتكفل بتوفير نظام تعليمى وصحى فائق الجودة، فأين هذا من غالبية المصريين.التعليم والصحة المقبولان عندنا مقصوران على المقتدرين وحدهم، فهل أصبح لحم غير الميسورين رخيصا؟!

إن توجيهات الرئيس السيسى الدائمة هى التخفيف عن محدودى الدخل، قال يوما: «إن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه أو يرأف به»، ومن ثم على الحكومة الإنصات لتوجيهات الرئيس، وتدارك الأمر بعدالة بين فئات الشعب، لاأكثر ولاأقل، تنفيذا لمنطوق المادة الثامنة من الدستور: «يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعي، وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية...بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين..».

السؤال الأكثر جوهرية، وسط الظروف الصعبة: لماذا تحرث الحكومة فى الماء ولا تظهر «العين الحمرا» للصوص المال العام؟، لماذا لا تستعيد بالقانون 370 مليار جنيه قيمة أراض للدولة استولى عليها الحيتان، بحسب تقارير رقابية - وذاك بند واحد من بنود فساد كثيرة - مبلغ كفيل بتغيير وجه الحياة على أرض مصر، يصون كرامتها من مَنَّ الصديق وأذى العدو، ويجعل يدها العليا لا السفلي..إن الانحياز الاجتماعى والفساد أخطر من الإرهاب، ولا سلام اجتماعى بغير تنمية، تأخذ فى اعتبارها احتياجات جميع الشرائح الاجتماعية، دون تمييز، هذا ما تقوله تجارب الدول التى سبقتنا فى التقدم والازدهار. لاسيما أن «الرأسمالية الطفيلية» هى رأسمالية غير وطنية، لا وطن لها سوى أموالها، تفعل أى شيء لمضاعفتها، حلالا أو حراما، حقا أو باطلا، لا تعنيها مصلحة البلاد أو العباد، حتى لو قامت ألف ثورة من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، الأمر شديد الوضوح.. لكن «ليس على الأعمى حرج»!

[email protected]
لمزيد من مقالات محمد حسين أبوالحسن

رابط دائم: