قادنى الفضول إلى »باكو« عاصمة أذربيجان بدعوة من منظمة اليونسكو. المناسبة هى انعقاد المنتدى الثالث للحوار بين الثقافات. ولأذربيجان قصة تحول مثيرة للاهتمام من دولة خرجت من مظلة الاتحاد السوفيتى السابق لتصبح دولة ناهضة متسارعة النمو برغم صعاب تحولها الديموقراطى المثير للجدل.
نسبة النمو السنوى تجاوزت ال 5% ، ومعدّل الأمية يقل عن نصف فى المائة لتصير عما قريب دولة خالية من الأمية (نحن الذين نتحدث عن مكافحة الأمية منذ ستين عاماً دون أن يتغير شيء فى هذا الوادى الرتيب) أما نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فيتجاوز عشرة آلاف دولار أمريكى سنوياً. تحقق هذا فى مجتمع خرج مثخن الجراح من الحقبة السوفيتية ليمثل اليوم مجتمعاً متعدد الأعراق واللغات والديانات والثقافات ويسوده الأمن والاستقرار باستثناء المشكلة المزمنة التى لم تجد حلاً لها حتى الآن فى منطقة ناجورنى كاراباخ المحتلّة ذات الأغلبية الأرمينية. الأرقام الرسمية عن التنمية والدخل والأميّة لا تكتمل بدون الرؤية الواقعية التى تمنحك إياها الحواس وأنت تتجول فى باكو العاصمة. مدينة نظيفة ومرتّبة ذات تخطيط عمرانى حديث ومريح وحدائق أنيقة وكبيرة تصادفها فى كل مكان تذهب إليه تقريباً.
بدا موضوع المنتدى عن الحوار بين الثقافات مكرّراً يُشعرك أحياناً بإعادة اختراع العجلة. لكن فى الجوهر كانت التساؤلات تتوالد بدرجة متقدمة من الصراحة والشجاعة. أذربيجان العلمانية والتى يمثل المسلمون فيها 97% من عدد السكان مثل غيرها من دول جنوب القوقاز ذات الأغلبية المسلمة تختزن قلقاً مكتوماً من الصعود الدينى بعد زوال الحقبة السوفيتية. فقد عرفت أذربيجان محاولات للتمدد من جانب حزب الله وشهدت بعد الحرب الشيشانية حضوراً للسلفية الجهادية من جانب آلاف المقاتلين الشيشان الذين لجأوا إلى أذربيجان، وهناك من يتحدث عن وجود ما لجماعة القرآنيين.
كشفت حركة النقاش فى المنتدى عن حجم القلق الذى يسيطر على العالم بسبب انتشار تيارات العنف والكراهية والتكفير. بدت منظمة »داعش« وغيرها وكأنها الخلفية غير المرئية لحركة النقاش. لكن المنتدى وبرغم إجماعه على اعتبار ظاهرة التطرف الدينى أهم العوامل المحدِّدة للصراع بين الثقافات إلا أنه لم يفرز رؤية شاملة لمواجهة الظاهرة وحصارها. جزء كبير من النقاش فى المنتدى بدا اجتراراً لنفس أدبيات خطاب الحوار بين الثقافات مثل ضرورة نشر قيم التسامح واحترام التنوع وقبول الآخر. وهذا بحد ذاته أمر طبيعى ومطلوب ولا تخلو منه المؤتمرات والمنتديات السابقة فى كل مكان .لكن النقاش فى المنتدى لم يقترب بما فيه الكفاية من الأسئلة الصعبة والشائكة لظواهر العنف والتطرف والكراهية. هذه النوع من الآسئلة يتطلب بالضرورة معالجة التحديات التى تحد من وربما تُجهض العديد من النوايا والمبادرات.
على هامش كل مؤتمر أو منتدى تدور أهم الحوارات أثناء جلسات العشاء أو خلال استراحات القهوة والشاى ما بين الجلسات. هنا تستمع إلى المعلومات والأفكار الأكثر صراحةً والتى قد يتردد أصحابها فى الجهر بها فى الجلسات العلنية والميكروفونات المفتوحة . تستمع مثلاً إلى رد إحدى عضوات مجلس الشيوخ الفرنسى على تساؤل لماذا تسمح السلطات الأوروبية لشبابها بالسفر إلى سوريا مثلاً للالتحاق بقوات » داعش« قائلة نحن لا نستطيع منعهم من السفر ! ثم تضيف فى درجة صراحة أعلى إلى أن هناك وجهة نظر داخل أروقة السلطة تقول فى مسألة الاقتتال الداخلى فى سوريا أو العراق أو ليبيا تlet them kill each other أى دعهم يقتلون بعضهم البعض ( ! ) مثل هذا الرد يختصر الموقف الغريب والمريب لبعض القوى العالمية من داعش وغيرها من جماعات العنف الدينى وهى تقوّض أركان بعض الدول العربية.
وحينما جاء دورى فى الحديث حول قضية الحوار بين الثقافات تبنيت منهجية الكشف عن التحديات التى يتعين تجاوزها ابتداء لكى تمضى مبادرات التفاهم الإنسانى قُدماً إلى الأمام. فنحن مطالبون أولاً بالعمل على تنمية القيم الإنسانية المشتركة فى التسامح والحوار وقبول التنوع لكن إنجاز ذلك مشروط بالإجابة على أسئلة عديدة. كيف يمكن إدراج هذه القيم داخل المنظومة التعليمية فى عملية تطوير تقترب من حد الثورة ؟ وكيف نتجاوز فى ذلك المشكلات الكمية والنوعية لنظامنا التعليمى المرتكز على التلقين والملخصات الدراسية والدروس خارج مؤسسة المدرسة لأن تربية الأطفال والنشء على هذه القيم الإنسانية المشتركة لا يعنى فقط إضافة مقرر جديد سيتم تلخيصه فى وريقات وتلقينه والتنبؤ بأسئلته بل يتطلب أيضاً أن يتم ذلك من خلال المهارات والأنشطة والتعليم التفاعلى وهو أمر يصعب تحقيقه فى ظل المنظومة التعليمية الحالية. وإذا كان المجتمع الدولى يطالب بتنقية مناهجنا التربوية من المضامين التى تجنح إلى تكفير الآخر أو رفضه فإن النظم التعليمية الأجنبية مطالبة بدورها بتنقية مناهجها التربوية من مضامين تحقير أديان الغير وثقافتهم ونبذ التعميمات الخاطئة والصور النمطية السلبية. هذه حاضنات تربوية للكراهية المتبادلة يجب وأدها.
التحدى الثانى الذى يواجه الإنسانية كلها هو ضرورة إعطاء مصداقية لخطاب الحوار بين الثقافات لكى تقتنع به الجماهير فى كل مكان، لا بد من تجاوز الممارسات الخاطئة ( والخطرة ) لتحقير الأديان والثقافات وإهانة الغير. هنا يجب إعادة اكتشاف بل وإعادة الاعتبار لإحدى أهم المواثيق الإنسانية وهى تقرير Macbride الذى اعتمده اليونسكو منذ أربعين عاماً بعنوان أصوات متعددة عالم واحد . لا بد أيضاً من وضع حد لسياسات العدالة الدولية الانتقائية التى تسحق الضعفاء ولا تجرؤ على الاقتراب من الأقوياء. لكن كيف يتحقق هذا ؟ إنه تحد آخر وجسيم لمصداقية خطاب الحوار بين الثقافات.
قالوا.. انظروا إلى سنابل القمح، كلما ازدادت جمالاً أخفضت رءوسها