يفترض أن السياسى يبحث دائماً فيما هو الأنسب لتحقيق مصالح المجتمع المختلفة، خاصة المصلحة الاقتصادية، بينما يبحث الداعية الدينى - إذا كان مخلصاً - فيما هو حق وحلال..من المدهش أن بعض قادة تيار الإسلام السياسى لم يدركوا أن الأنسب سياسيا قد لا يكون حلالا فى كل الأحوال، حيث تنطبق أحكام الضرورة.. لم يدرك هؤلاء للأسف أن السياسة فى أحد تعريفاتها هى خيار بين بدائل تقتضيها ضرورة.. وهنا قد يمتلك هؤلاء القادة العلم الدينى، لكنهم يفتقدون إلى الحكمة والعقل..
والسلطة السياسية لابد أن تكون قوية حازمة، ولكن يجب أن تكون أيضاً حكيمة عاقلة، فإذا أفتقدت السلطة إلى الحكمة والعقل فأنها تقود مجتمعها إلى الهلاك..
تلك الفكرة البسيطة تلخصها رواية صينية شهيرة كتبت فى عهد أسرة «منج» التى حكمت الصين خلال الفترة من 1368 إلى 1644، وعنوان الرواية هو «رحلة إلى الغرب»، وبطل هذه الرواية قرد ساحر تمكن من تأسيس حضارة القرود وأصبح زعيماً لهم ، وقد نجح فى تكريس سلطته فى مملكة القرود عندما تغلب على الشيطان وتمكن من سرقة سيفه، وعاد إلى مملكته ظافراً ومعه سيف الشيطان، وتعلم مهارة استخدام السيف، وانصاعت له جموع القرود مهللة باسمه وبطولته، وسمح لهم القرد الملك أن يصنعوا سيوفا خشبية كى يلعبوا بها، وشجعهم على ذلك، وكانوا يتصارعون بها فى الأسواق وتسيل دماؤهم فى ذلك الصراع الغبى الذى ألهاهم عن مشاكلهم الحقيقية .
لقد كانت مملكة القرود قبل أن يتسلط عليهم القرد الساحر الذى يملك سيف الشيطان، تعيش فى بلهنية من العيش وتفكر فى بناء مجتمع سعيد وعادل ولا تخاف إلا من المجهول، ولكنها أصبحت الآن تحت حكم ذلك القرد الجبار تخاف من السلطة، ودفعهم الخوف إلى تفضيل الوضع القائم والقبول بالمظالم والمعاناة، وكان ذلك فى نفس الوقت مناسباً لطبقة محدودة من القرود تمكنت أن تحجز لنفسها مواقع قريبة ومميزة من القرد الملك، واستفادت من الإمتيازات المختلفة التى أتاحها ذلك الإقتراب..
وتحكى الرواية أن هذا القرد الساحر الذى عشقته القرود فى البداية، نجح أن يحكم أمة القرود ولكنه فشل فى أن يحكم نفسه، فها هو بعد أن أمعن فى التفكير حول أوضاع البلاد المجاورة لمملكته يتوصل إلى تخوف من أن تظن تلك البلاد أن لعب شعبه من القرود بالسيوف الخشبية هو أستعداد للحرب، وربما تفكر تلك البلاد المجاورة فى شن حرب وقائية ضده، وإذا حدث ذلك فإن سيوف شعبه الخشبية لن تصد أو ترد، لذلك بدأ الملك على الفور فى صنع سيوف حقيقية وإعداد قروده للحرب، وبدأ يتأهب لشن حرب وقائية ضد الحرب الوقائية التى قد يقوم بها جيرانه، ولكى يفعل ذلك ضغط بشدة على شعبه حتى هلك الزرع والضرع..إلخ ..
وتصل الرواية هنا إلى ذروتها فى إبراز أن ذلك القرد الملك استخدم السلطة بلا حكمة ، إلا أن النهاية الكاملة لهذا الملك وفقاً للرواية تأتى عندما يلتقى مع «بوذا» الذى استدعته كائنات سماوية كى يتعامل مع هذا القرد المنفلت الذى يهدد بحماقته السلم المجتمعى، رغم محاولتها المتكررة فى تطهيره.. وبالفعل ينجح «بوذا» فى قهر كبرياء الملك القرد، حيث قام بسجنه فى جبل العناصر الخمسة، بعد أن لقنه درساً فى نسبية القوة .
وبعد مرور 500 عام قام أحد القديسين من أتباع بوذا (القديس كوان ين) الذى يمثل الرحمة المطلقة بزيارة القرد الملك فى السجن، وقرأ عليه قصيدة طويلة كان مطلعها: «من المحزن جدا أن القرد الساحر لم ينفع الناس... لأنه كان مجنونا بعظمة الزعامة».. وتلخص القصيدة فى مجملها انتقاد امتلاك القوة بغير ذكاء..
وبعد أن أنصت القرد للقصيدة تضرع إلى القديس أن يطلق سراحه من السجن، ووافق القديس بشرط أن يهب القرد نفسه للبحث عن الحكمة والإستنارة ليس فقط من أجل نفسه وإنما من أجل المجتمع كله، وقبل أن يفتح باب الزنزانة ويطلق سراحه، وضع القديس حلقة معدنية فوق رأس القرد، وهى حلقة سحرية تضيق كلما تصرف القرد بشكل غير لائق كى تؤلمه وتذكره بعهده الذى قطعه على نفسه..
ولا يمكن أن نغادر عالم الأساطير الصينية الحكيمة دون أن نشير إلى حقيقة أن البعض يفضل تقمص دور الشيطان الأخرس، ومن الرموز المألوفة التى يحتفظ بها البعض كتعويذة فوق مكاتبهم، تماثيل قرود ثلاثة، أحدها يضع يديه على أذنيه، والثانى يضعهما على فمه، والثالث يضعها فوق عينيه.. كرمز للسلامة يوفرها الخوف، وتعبير عبقرى عن الشيطان الأخرس الذى لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، وربما كانت تلك هى القرود التى عاشت فى مملكة القرود التى روينا حكايتها..
وتحكى الحكمة الصينية أن صبر القرود قد طال فى مملكة القرود حتى تدخلت السماء كى تنقذهم من مصيرهم البائس، إلا أن «بوذا» قد مل من النزول والتدخل، وأصبح متعيناً على القرود أن تتخلى عن خوفها المرضى من المجهول، وخوفها الموروث من السلطة، وألا تظل دائما فى حالة انتظار للقرد المخلص أو الساحر أو القوى، وعليها أن تختار النظام الذى يناسبها بعد أن تزيح تلك الطبقة من القرود الراقصة حول إيوان القرد الحاكم..
وفى الصين كان المشكلة المعاصرة كما نعلم كيف يمكن إطعام وإسعاد ما يزيد على بليون ونصف البليون نسمة من السكان، ويقول البعض أنهم اختاروا السوق المفتوحة، بينما يرى البعض الآخر أنها تمسكت بالنظام الاقتصادى المخطط، والواقع أنها لم تتخذ طريقا سبق للآخرين السير عليه، لقد اختارت ما يناسب ظروف الصين الواقعية التاريخية والاقتصادية والثقافية والسياسية ..
والحقيقة أن مشكلة المجتمعات البشرية لا تختلف كثيرا عن مشكلة مملكة القرود، فليس مهما ما هو شكل نظام الحكم أو أيديولوجيته طالما كان يحقق العدل والمساواة والتنمية والتقدم، واسمحوا لى أن استعير الحكمة الصينية مرة أخرى، فقد قال الزعيم الصينى دنج شياو بنج أنه «ليس مهما أن يكون القط أسود أو أصفر.. المهم هو أن يتمكن من اصطياد الفئران»...