رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

عن العلمانية والداعشـية وحوار هادئ مع صاحب الفضيلة

فى إطار سعيه إلى مجابهة الفكرة الداعشية، فإن صاحب الفضيلة أستاذنا الدكتور عبد الفضيل القوصى قد اختار أن يمارس بذات الأسلوب

الذى تمارس به النخبة المصرية عموماً؛ وهو أسلوب التصويب على الأيسر. والحق أن المقال الذى نشرته الأهرام الغرَّاء لصاحب الفضيلة- قبل أسبوعين تقريباً- بعنوان: هل تُجابه الداعشية بالعلمانية؟ لابد أن يثير دهشة قارئه، ليس فقط لما ينطوى عليه من اختيار التصويب على الأيسر (وهو العلمانية المُتَخَيَّلة)، بل وأيضاً لما يضمره من التأكيد أن موقفه من «الفكرة الداعشية» ليس «الرفض»، بقدر ما هو «التصحيح» أو حتى «التخفيف». فإذ يؤسس صاحب الفضيلة مقاله على تمثيلٍ تكون فيه داعش بمثابة «عيننا الرمداء» التى لا يمكن أن يكون علاجها بالخلاص منها واقتلاعها من محجرها، بل يكون بتطبيبها ومداواتها، فإن ذلك يؤول إلى أن داعش عنده ليست «سرطاناً خبيثاً» ينبغى استئصاله، بقدر ما هى مجرد «رمدٌ خفيف» يحتاج إلى علاجٍ بسيط. وليس من شكٍ فى أن تمثيل داعش بالعين الرمداء التى ينبغى الحفاظ عليها مع مداواتها، وليس بالعضو الذى يأكله السرطان الخبيث ويلزم استئصاله إنما يعيّن موقف صاحب الفضيلة من داعش على نحوٍ يكون فيه قابلاً بها مع علاج دائها. وهو إذ يعيِّن هذا الداء فى «الرمد» فإنما ليكشف عن أن الأمر مع داعش لا يتعلق بما هو أكثر من أن عيونها الرمداء العليلة تجعلها لا ترى الحق كما يراه فضيلته.


ولسوء الحظ، فإن صاحب الفضيلة لم يقف عند حد القبول بداعش مع التأكيد على وجوب مداواتها، بل إنه قد راح يحارب لها معركتها فى مواجهة الساعين إلى تفكيك الأصول النظرية والمعرفية الغائرة التى تقوم عليها الفكرة الداعشية نفسها. وهكذا فإنه قد راح يضع هؤلاء فى موقع من يريدون «أن تَحِلَّ محلاً لداعشية عَلْمانية فجَّة تبتعد بِسَدَنَتِهاـ بعضًا أو كلاًـ عن ثوابت الدين الكلية، تحت سراب التنوير تارة، والحداثة وما بعد الحداثة تارة أخرى؛ سواءً بالتشكيك فى تلك الثوابت القواطع، أو تلوينها وتشكيلها بما شاءت لهم الأهواء والنَّزَاعَات». وإذ يصل صاحب الفضيلة- والحال كذلك- إلى وصم خصوم الداعشية بالبعد عن الدين والتشكيك فى ثوابته، بينما يكتفى بوصف الداعشية نفسها بمجرد «الانحراف عن مبادئ الإسلام ومقاصده»، فإنما ليعيِّن موقفه القائم على إمكان التصالح مع الفكرة الداعشية بما هى مجرد انحرافٍ عن المبادئ والمقاصد، بينما هو الرفض الكامل لخصومهم بما هم من الموصومين بالبعد عن الدين بالكليّة. وللغرابة فإن صاحب الفضيلة لا يقف عند مجرد ذلك، بل يتجاوز إلى تبنى قراءة مغلوطة لا ترد الفكرة الداعشية إلى أصولها الكامنة فى خطاب تسييس الإسلام الذى بدأ قناعه الحديث فى التبلور مع ابن عبد الوهاب والأفغانى بالذات، لكى تجعلها نتاجاً- بمنطق رد الفعل- لما قال إنها الأفكار الصادمة للعلمانية. وهكذا فإن الداعشية لم تعد- طبقاً لصاحب الفضيلة- نتاجاً لخطاب تسييس الإسلام الذى يستحيل إلا أن تكون هى ذروته، بل إنها أصبحت- وللمفارقة- نتاج الخطاب الساعى إلى تحرير الإسلام من لعبة التسييس التى تثقل عليه بصراعاتها المدنسة.


وإذ راح الرجل يطرح نماذج للأفكار العلمانية الصادمة التى تعد مسئولة عن إنتاج الداعشية، فإنه قد استدعى- من دون التصريح باسمي- فكرة وردت فى أحد مقالاتى المنشورة فى الأهرام. ولسوء الحظ، فإن صاحب الفضيلة لم يقف- سامحه الله- عند حد التلاعب فى صياغة الفكرة، بل إنه لم يتفضل بمناقشتها، واكتفى بمجرد تسفيهها. فإذ أورد مستنكراً: «ماذا تَقُول فيمن يُعلنُ صراحة أننا حين نقاوم «الداعشية» ـ ومثيلاتها ـ فإننا نكون بِحَاجَةٍ إلى أن ننأى بأنفسنا ـ كما يضيف ـ «عن اعتبار الوحى سلطة لابد من الخضوع لها» لأن تنزيل هذا النموذج الجاهز المنبثق من الوحى على واقعنا الراهن ـ كما يُردف: لا فُض فوه ـ هو الرَّافد المغذِّى لكل ضروب الإكراه والعنف فى مجتمعاتنا؟»، فإنما ليوجد عند قارئه قناعة بأن هذه الفكرة تعلق نجاح مواجهة الداعشية على رفض الوحى ذاته. ولو أن صاحب الفضيلة قد أضاف إلى هذه الصياغة للفكرة كلمة واحدة- بحيث يستخدم تعبير «النموذج الجاهز المنبثق من اعتبار الوحى سلطة لابد من الخضوع لها»، بدلاً من تعبير «النموذج الجاهز المنبثق من الوحي»- لما كان لها أن تنتج هذه الدلالة أبداً. فإنه إذا كانت الصياغة التى تقول: «إن تنزيل هذا النموذج الجاهز المنبثق من الوحى على واقعنا هو الرافد المغذى للعنف» تخايل بأن الوحى ذاته هو المنتج لمفهوم النموذج الجاهز المغذى للعنف، فإن الصياغة الأخرى التى تقول: «إن تنزيل هذا النموذج الجاهز المنبثق من (اعتبار) الوحى (سلطة لابد من الخضوع لها) هو الرافد المغذى للعنف» إنما تؤكد أن اعتباراً ما للوحى أو علاقة بعينها معه هى التى تنتج النموذج الجاهز المغذى للعنف. وهكذا فإنه فيما تقصد الفكرة إلى التأكيد على أن علاقة ما مع الوحى تعتبره سلطة لابد من الخضوع لها- وليس الوحى ذاته- هى التى تغذى العنف الراهن، فإن صياغة صاحب الفضيلة لها صوَّرت الفكرة على أنها تربط العنف بالوحى ذاته، وليس بهذه العلاقة معه بالذات.


والحق أنه يلزم التأكيد أن الأمر يتعلق، وعلى الدوام، لا بالوحى ذاته، بل بنوع العلاقة التى يقيمها الناس معه. وإذا كان التاريخ يشهد بأن الصراع على الوحى أو القرآن قد احتدم مبكراً، وفى قلب الحدث الأكثر مركزية فى تاريخ الإسلام السياسى والثقافي؛ وهو حدث الفتنة الكبرى، فإنه قد بدا أنه، فى الجوهر، صراعٌ بين علاقتين ممكنتين مع القرآن؛ تكون فى إحداهما سلطة إخضاعٍ وإجبار، بينما تكون فى الأخرى ساحة تفكيرٍ وحوار. فإذ تؤشر الواقعة التى أمر فيها معاوية برفع المصاحف على أسنِّة الرماح والسيوف على العلاقة مع القرآن كسلطة، فإن تصور القرآن- بحسب الإمام علي- «لا ينطق بلسان وإنما ينطق عنه الرجال» يؤشر على العلاقة معه كساحة للتواصل والحوار. ولسوء الحظ فإن انتصار الأمويين فى السياسة قد جعلهم يقومون بتثبيت العلاقة مع القرآن كسلطة إخضاع وإلى حد ما جرى من اعتبار رفضها رفضاً للوحى ذاته. فهل يدرك صاحب الفضيلة أن الأمر يتعلق، لا بالوحي، بل بمجرد علاقة معه تقف وراءها صراعات السياسة؟.



لمزيد من مقالات د.على مبروك

رابط دائم: