رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

كل الخطابات تتجدد.. إلا خطاباتنا !

قلنا إننا نخطيء فهم المقصود من تجديد الخطاب الدينى حين نظن أن الخطاب هو الخطبة، خطبة الجمعة مثلا، وأن التجديد المطلوب لا يعدو أن يكون إحلال لهجة محل لهجة أو استخدام كلمات بدلا من كلمات.

ونحن نخطئ حين نعتقد أن تجديد الخطاب الدينى مطلوب فقط لمواجهة الجماعات الارهابية التى تستخدم العنف فى خطابها، فنحن فى حاجة لخطاب لطيف!وهناك من يقول إن العيب فينا وليس فى الخطاب الدينى، لأننا ابتعدنا عن الخطاب الاسلامى الأول الذى أصبح بالنسبة لنا قديما، فعلينا أن نعود إليه ونجدد علاقتنا به. وبهذا الفهم يكون السلفيون مجددين!.وهناك من يرى أن التجديد ليس فهما جديدا للنصوص، وإنما هو بحث فى النصوص الموجودة عن موقف الإسلام من المحدثات والمخترعات التى لم يأت فيها نص. فإذا كان الإسلام عند هؤلاء قد حرم الغناء والرقص والنحت والتصوير وغيرها من الفنون القديمة فالفنون الحديثة مثلها حرام.ولأننا خرجنا إلى الحياة فوجدنا آباءنا على هذا الخطاب الدينى السائد فورثناه عنهم كما ورثوه هم عن أبائهم وأجدادهم تحول هذا الخطاب الموروث إلى أمر واقع فى نظر الكثيرين وحقيقة ثابتة لا يناقشونها، وبدت الدعوة لتجديده بالنسبة لبعضهم هرطقة أو بدعة أو ترفا فكريا لا يصح أن ننشغل به ونحن نعانى ما نعانيه من أزمات ومصاعب. وكأن هذا الخطاب الدينى المتحجر ليس سببا جوهريا من الأسباب التى تشل تفكيرنا وتربكنا وتسلط علينا الإرهابيين وتحول بيننا وبين الخروج مما نحن فيه.

هذه الأخطاء التى نقع فيها ونحن نناقش تجديد الخطاب الدينى ينساق لها بعضنا غفلة أو إيثارا للراحة، وهؤلاء هم الذين تعودوا ألا يفكروا لأنفسهم، وإنما ينتظرون الفتوى ليعملوا بها والعهدة على المفتي. ويأتيها البعض عمدا ومع سبق الإصرار والترصد، وهؤلاء هم بعض علماء الدين الذين حولوا وظيفتهم العلمية إلى كهنوت تحول بالطبيعة إلى سلطة إن لم تكن شرعية لأن الإسلام ليس فيه كهنوت فهى سلطة واقعية يمارسها أصحابها فى الظل بين الظلمة والنور وبين السر والعلن. ولهذا تظل غامضة لا نقدر حدودها ولا نعرف كيف نتعامل معها، وإلا فأين هى التقارير المعلنة عن التعليم الدينى فى مصر، وعدد الطلاب المنتظمين فيه، وعدد الأساتذة، وعن المناهج المقررة، وعن الميزانية المخصصة له. يقال والله أعلم إن المعاهد الدينية تقدر الآن بالآلاف والطلاب بالملايين. وفى ستينيات القرن الماضى أنشيء مجمع البحوث الإسلامية على نمط مجمع البحوث الذى أنشأه الفاتيكان فى القرن السادس عشر فى أيام البابا ليون العاشر ليراقب المطبوعات ويحدد أسماء الكتب الممنوعة. وقد ظل مجمع البحوث التابع للفاتيكان يمارس سلطته هذه إلى الستينيات الأولى من القرن الماضى ثم أنهى أعماله وراجع قراراته السابقة واعتذر عنها. وهكذا نرى أننا نلحق بالإسلام ماليس فيه، وأننا لا نأخذ عن الآخرين إلا ما تخلوا عنه بعد أن جربوه وتعذبوا به قرونا طويلة، وهو هذه السلطة الدينية التى انتقلت إلينا عدواها وأصبحت تأمر عندنا وتنهى وتحلل وتحرم، فى الوقت الذى طلبنا فيه الحرية كما لم نطلبها من قبل فأسقطنا دكتاتورية يوليو العسكرية، ثم أسقطنا دكتاتورية الإخوان الدينية التى أرادوا بها أن تكون «داعش» أخري، فى مصر والسودان. وإذن فهى «دامس» بالاسم والفعل معا، لأن الطغيان الدينى ظلمة دامسة وليل لا نهار له. وقد خرجنا من هذا الليل البهيم وأصبحنا فى أشد الحاجة لخطاب دينى جديد يساعدنا فى وضع الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة، وبين الدين والعلم، وبين الدين والفن وأخذنا نتلفت حولنا بحثا عن فقهاء مستنيرين يقفون إلى جانبنا فى معركتنا الفاصلة مع الإرهاب، أى فى معركتنا الفاصلة مع الظلام وعصوره وجيوشه وفقهائه وخطبائه.


لكننا نصاب أحيانا بنوع من عمى الألوان فنطلب العون ممن يحرص على أن نظل معذبين بما نحن فيه ليظل هو متمتعا بما هو فيه. وهكذا نتوجه له بالسؤال ونطلب منه تجديد الخطاب الدينى ثم لا نتلقى جوابا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وربما كان يملكه لكنه يخفيه.


فإذا كنت على حق فيما ذكرته عن الأخطاء التى نقع فيها ونحن نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى فكيف نصحح هذه الأخطاء؟


لنبدأ بكلمة الخطاب التى لم تعد مجرد لفظ فى المعجم يدل على الكلام الذى يوجهه أحدنا للآخر، وإنما أصبحت مصطلحا علميا يدل على الوسائل والأدوات والطرق التى يستخدمها الخطاب فى إنتاج ما يعبر عنه ويدل عليه من المعانى والأفكار التى لا ينفرد بإنتاجها والتعبير عنها من يوجه الخطاب ويرسله وإنما يشاركه فى ذلك من يتلقاه. وإذا كان باستطاعة الذى يوجه الخطاب أن يختار مفردات بالذات وأن يؤلف بينها على نحو يعمم ويخصص، ويظهر ويخفي، ويقبل ويرفض فالذى يتلقى الخطاب يتمتع بهذه الحقوق كلها. لأن اللغة ملك لكل المتخاطبين بها. وهى ليست معجما محدودا، وليست فنا واحدا، وليست عصرا واحدا، وإنما هى تاريخ حافل من النصوص والفنون والأساليب والعصور والأجيال. ومن هنا يجد كل قاريء يحسن القراءة ما يستطيع أن ينفرد باكتشافه فى كل نص وان جمعته بغيره من القراء المعانى الظاهرة والدلالات المشتركة.


ومن الطبيعى أن يكون هذا المفهوم الجديد للخطاب غير معروف للفقهاء التقليديين. ومن الطبيعى أن يرفضوه إذا عرفوه، لأنه يخالف فهمهم للنصوص التى يكتفون منها بما يظهر لهم، ثم يعتبرون أن ما يظهر لهم هو وحده الحق وأن غيره باطل، وهكذا تقع أعينهم على الكلمة فلا يميزون بين معانيها فى ذاتها ومعانيها حين تدخل فى الجمل وتجمع بينها وبين الكلمات الأخرى علاقات تنطقها بمعانيها الحقيقية وعلاقات أخرى تنطقها بمعانيها المجازية. وحين يقرأ هؤلاء الفقهاء التقليديون الحديث فلا يسألون عن راوية ولا عن الزمن الذى سجل فيه. وحين يقرأون القرآن فيوحدون بينه وبين ما يفهمونه هم منه، فيصبح فهمهم لكلام الله هو كلام الله. وهذا هو الخطاب الدينى القديم.


لقد نبع هذا الخطاب من فلسفة تقوم على المسلمات والمطلقات والتلقينات وتسقط الإنسان من حسابها ولا تعترف بحق من حقوقه، وترتاب فى العقل، وتجهل كل ما اكتشفته العصور الحديثة فى الفكر واللغة وفى الطبيعة والمجتمع، ولا تعرف أن الحقيقة نسبية، وأننا نصل إليها بجهودنا المشتركة، وأننا نخطيء ونصيب، وأن الخبرات تتراكم، والدروس تستفاد، والمجتمعات تتطور فتتطور الثقافات وتتحاور وتتحرر العقول والنفوس والأبدان، وتتجدد المناهج والخطابات الفلسفية والعلمية والسياسية والدينية.


نعم. كل الخطابات تتجدد. الا خطاباتنا!



لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي

رابط دائم: