رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الحضور المصرى فىعدن

يؤرقنى حاضرنا العربي، بكل مافيه من خلافات، تماما مثلما أجدنى فى حيرة من صمت النخب وتغاضيها أو مشاركتها فى تضليل الرأى العام حول المشترك بين الدول العربية القديمة أو الحديثة التى أنشاها الاستعمار، وقد توصلت إلى قناعة، مفادها: أن الشعور الجارف بالمحليّة،وما يتبعه من تضخيم لدور الدولة الوطنية فى التاريخ لدرجة أنه أصبح حالة مرضيّة، يحول دون التبصر فى العلاقات المشتركة بين الدول العربية فى شقها الإيجابي، وهو يجب العمل من أجل توضيحه.

لم تأت قناعتى السابقة من لحظة تأمل عابرة، أو تأثر بأحداث قومية ووطنية، تُشكِّل فى مدّها وجزرها إيذانا بالرحيل،إنما جاءت نتيجةتراكم المعرفة خلال سنوات من القراءة والمطالعة، مع تركيز خاص حول معرفة خلفية الفرق فى الطرح بين الجانبين المصرى والعربى لكثير من القضايا، خاصة المشتركة بين مصر وهذه الدولة العربية أو تلك، سواء بالنظرة إلى المشاركة المصرية فى صناعة التاريخ العربى الثورى منه على وجه الخصوص ـ بالإيجابية المطلقة من الطرف المصري، وبالسلبية المطلقة ـ فى الغالب ـمن الأطراف العربية، وحين يعترف الذين عايشوا الأحداث بالدور الخيِّر لمصر، فإن ذلك يتمًّ على استحياء نظرا لتغيّر الظروف ووصول أجيال جديدة إلى الحكم لها نظرتها الخاصة للعلاقة مع مصر، وهى لا تُؤسّس فى كثير من الأحيان على التاريخ المشترك، من ذلك مثلا الحضور المصرى فى اليمن، الذى ينظر إليه من زاوية ما يعرف بحرب اليمن، التى ساهمت فيها مصر بأعداد ـ بلغت فى نهاية الحرب 55 ألف مقاتل كما تشير إلى ذلك بعض الدراسات والمراجع.

لا شك أن هناك قضايا كثيرة مشتركة بين المصريين واليمنيين، محظورة من التداول أو منسيّة، خاصة الإنسانية منها، البعيدة عن حسابات النصر والهزيمة، ضرورى العودة إليها ولو كان ذلك من خلال الأدب، وهو ما نجده متناثرا فى رواية «ستيمر بوينت» الثرية بقيم الجمال، وبمحطات التاريخ وبتقسيمات الجغرافيا للروائى والإعلامى اليمني» أحمد زين«.. صحيح أن الرواية تتحدث عن عدن الجغرافيا والبشر والتاريخ والزمان، لكن هناك حضورا مصريا وعربيا وعالميا أيضا.

هناك ثلاثة أمثلة نقتبسها من نص «ستيمر بوينت» ـ ملتقى البواخرـ أولها ذلك الذى جاء فى الصفحة( 13)، حيث يقول أحد أبطال الرواية: «.. فيما يخصنى لا رغبة لى فى تخوين أحد.. جئت مثل الميت من الحًدَيْدَة، مدينة لا ملامح لها، مدفونة الآن فى ركام من الصمت والتاريخ وجثث الجنود المصريين واليمنيين، ملكيين وجمهوريين، ولا أريد أن أعود إليها بعد أن عثرت على حياتى فى عدن..».

هنا تبدو عدن الملجأ والحماية لهارب من الحًديدة عاش فيها ويلات الحرب، على اعتبار أن التاريخ هناك فى حالة من الصمت، لأن البشر أيضا سقطوا من خلال القتال، ولا نجد تفرقة بين الجنود المصريين واليمنيين، لكن هناك حضورا مصريا كما ذكرت من البداية.

وفى فقرة أخرى يعود بنا الكاتب إلى مرحلة سابقة عن تلك التى جاءت فى الفقرة أعلاه، حيث يقول: «باكرا قطفت الثورة والدك، وباكرا هجرت أنت الحُديْدة، فى ذلك النهار من أواخر ديسمبر 1962، أى قبل حوالى أقل من خمس سنوات، التفت وراءك ولم تر قوارب الصيادين، تخفق فوقها طيور بيض، ولم تصغ لنداءات الباعة الجائلين، يتعقبون المسافرين، لكنك شاهدت كتيبة مصرية جديدة تحط رحالها، وأبصرت أفرادها يمسحون العرق عن وجوههم بمناديل ملوّنة، ويعتّلون عتادهم الثقيل، فيما راحوا يتقدمون بخطوات واسعة فوق رصيف الميناء، تلّفه الرطوبة، وتضوع فى أجوائه رائحة سمك نافق، بدوا لك حينها فى عجلة من أمرهم، كأنما يريدون إنهاء المهمة، والعودة ثانية إلى مصر..».( ص 14).

مشهد رائع للجنود المصريين؛ حيث الجدية والهمة والنشاط، والأكثر من وضوح الهدف لديهم، يسارعون إلى إنهاء مهمتهم والعودة إلى مصر، وهذا ـ فى نظرى وصف يؤرخ ـ دون أن ننسى أنه عمل روائى لمرحلة من الوجود المصرى فى اليمن، بل إنه ـ وقد يكون هذا للمرة الأولى ـ يعطى للعمل العسكرى المصرى فى اليمن بعدا جديدا لجهة تحديد متطلبات ووصف لأفراده ولسلوكهم منذ أكثر من خمسة عقود مضت، نخالها كأنها اليوم، خاصة أنها لاتزال تؤثر على صانع القرار المصرى تجاه الأحداث اليمنية الراهنة.

يبقى المثال الأخير وهم الأهم، لأنه يكشف لنا عن تفاعل اليمنيين مع ثورة سعد زغلول، ومن خلاله مع مصر، باعتبارها قلعة الثورة ومنبع المقاومة فى الوطن العربي، وهو ما يتطلب إعادة النظر من كُتَّاب السيناريو فى مصر لتوضيح البعد العربى للوطنية المصرية.. لنتابع ذلك فى الفقرة التالية: ( لم يعد السيد حسين يسمع الأغنية تتردد «مابا النحاس أو مكرم»، إلا أنه بقى يقص عليهم بصوت رقيق، كأنه يتكسّر بين لحظة وأخرى، تفاصيل ذلك المساء، شديد البرودة من عام 1922، الذى غادر فيه سعد زغلول على متن الباخرة الحربية «كلما تس» إلى جزيرة سيشل فى المحيط الهندي، على قرع الطبول وأهازيج العدنيِّين يردّد صداها جبل حديد، وهى تحكى عن الشجاعة والبطولة ومقاومة المحتل ـ ص 38 ـ 39).

الاقتباسات السابقة، أعطتنى فرصة ـ قد لاتكون من حقى لقراءة رواية أحمد زين سياسيا، وأعرف أن هذا فيه من الظلم الكثيرللرواية وللكاتب، لأنه يغطى على الجوانب الجمالية فى هذا العمل الإبداعى الثري، لكن ربما سيعذرنى «زين» إذا عرف بأن الهدف هو متابعة التاريخ العربي، حتى لا يصبح المنتج العرفى والإبداعى حكرا على مجتمع عربى دون آخر، ناهيك عن أن روايته جعلتنا نتساءل: كيف لم نتطور وعدن كانت وجها مشرفا وملتقى حضاريا وتجمعا إنسانيا فى أربعينيات القرن الماضي؟.. وهو سؤال سياسى بالأساس، قد ننتظر الإجابة منه فى أعمال أخرى؟.

كاتب وصحفى جزائري


لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه

رابط دائم: