النقابة مؤسسة عبقرية ابتكرتها الحضارة الاسلامية كواحدة من المؤسسات الوسيطة بين المجتمع والدولة، النقابة وسيلة تنظيمية للحفاظ على سعادة المجتمع ورقيه، وضمان أن تكون جميع الخدمات المقدمة للناس على أعلى مستوى من الجودة والاتقان، وفى الوقت نفسه عادلة فى سعرها أو تكاليفها، النقابة أهم من الوزارة التى تشاركها التخصص نفسه والمهنة…كيف؟
النقابة مؤسسة ينشئها أهل المهنة والاختصاص لتحقيق هدفين واضحين لا ثالث لهما، هما: حماية المجتمع من أهل المهنة، وحماية أهل المهنة من عوائد الزمان وتقلبات الأيام، هدفان واضحان لا لبس فيهما، تقوم من خلالهما النقابة بضمان جودة الخدمة أو السلعة التى يقدمها أهل المهنة أو الصناعة للمجتمع؛ بحيث لا يكون فيها غش ولا تدليس، وتكون على المستوى الذى تحدده النقابة من الجودة والاتقان، وبالسعر والتكلفة العادلة التى تقررها النقابة أيضا، وفى الوقت نفسه تقوم النقابة برعاية المنتمين اليها فى حالة المرض والعجز والحوادث، وحمايتهم أيضا من عدوان الدولة والمجتمع عليهم.
ظلت النقابات تقوم بهذا الدور فى مجتمعاتنا الى أن جاء محمد على باشا، ووصل الى السلطة من خلال تأييد ومساندة النقابات التى كانوا يسمونها بأصحاب المهن والطوائف، وبعد أن استقر له الأمر على عرش مصر قضى على استقلال النقابات، وأخضعها لسلطان الدولة، وحولها الى أداة من أدوات الدولة، وظل هذا الحال الى أن دخلت مصر المرحلة الليبرالية على مستوى المجتمع أولا مع مصطفى كامل وتلاميذ محمد عبده والأفغاني، وعلى مستوى الدولة مع سعد زغلول وثورة 1919، فى هذه المرحلة استعادت النقابات بعض قوتها ودورها.
ومع ثورة 1952 رجعت النقابات الى سيطرة وهيمنة الدولة مرة أخرى، وفقدت استقلالها وتحولت الى وسيلة للتعبئة السياسية، والحشد الاجتماعي، وظل هذا الأمر الى منتصف الثمانينيات حين استطاعت جماعة الاخوان المسلمين السيطرة على معظم النقابات الفاعلة، وحولتها الى بديل للحزب السياسى المعارض، فقضت على دورها تماما الا من بعض الخدمات المتعلقة بسد حاجات الأعضاء فى الحصول على سلع معمرة وشقق ورحلات حج وعمره بأسعار مخفضة، وما دون ذلك أصبحت النقابات وسيلة من وسائل الاخوان فى حربهم ضد النظام السياسى فى مصر، وضد اسرائيل وأمريكا، فأصبحت نقابة الأطباء تهتم بفلسطين وأفغانستان والشيشان أكثر من اهتمامها بسرقة أعضاء الفقراء المصريين، أو تدمير صحتهم، وموتهم على أرصفة المستشفيات.
والآن ومصر تشق طريقها نحو المستقبل؛ تاركة وراءها ميراث وتجارب وأخطاء الماضى بكل عناصره ومكوناته، وبكل الفاعلين فيه، والمنفعلين به، فكيف تكون النقابات رافعة للمجتمع؟ ومساهمة بقوة فى تحقيق التنمية والنهوض الاقتصادي؟ وكيف تسهم فى القضاء على الفساد؟ وما هو دورها فى القضاء على البطالة ورفع مستوى التشغيل المهنى المحترف؟…أسئلة كثيرة يمكن أن تكون اجاباتها فى النقاط التالية:
أولا: وضع قانون جديد للعمل النقابي، يلزم كل مهنة بأن تؤسس لها نقابة خاصة بها، ويتم التفريع فى النقابات وتنويعها بحيث يكون لكل تخصص محدد المعالم والمجال ونطاق العمل نقابة خاصة به، ويجب أن يتضمن القانون حدود عمل النقابة، ونطاق اختصاصاتها، ودورها ووظائفها، ويحقق لها الاستقلالية والحماية من التوظيف السياسى سواء من الحكومة، أو من الأحزاب والتيارات السياسية التى قد يسيطر أعضاؤها على قيادة النقابة.
ثانيا: تقوم كل نقابة بوضع لوائح ونظم واضحة تحدد دورها فى المجالين المحددين لها وهما: حماية المجتمع من أعضاء النقابة ومخالفاتهم وأخطائهم، وحماية أعضاء النقابة من عوائد الزمان وظلم السلطان وتعدى المجتمع.
ثالثا: تضع كل نقابة شروط ومعايير أداء المهنة التى تتخصص فيها، وينبغى أن تستفيد من أفضل الممارسات العالمية فى تخصصها ومجال عملها، وتضع معايير تضمن أداء المهنة التى تتخصص فيها من أشخاص ذوى كفاءة، ومرخص لهم بأدائها، وفى الوقت نفسه تضمن أن يكونوا أمناء على المهنة وما يتعلق بها من سلوكيات، بحيث تضمن النقابة أن يتمتع أعضاؤها بثقافة هذه المهنة وأدابها.
رابعاً: تضع النقابة جدولا واضحا ومحددا لمستويات أسعار الخدمة يكون إرشاديا وليس ملزما، ولكنه يحول دون الاستغلال والمبالغة والنصب.
خامسا: تقوم النقابة بفتح فروع لها فى كل منطقة على امتداد الجمهورية، وتقوم باصدار رخصة معتمدة لكل عضو فيها بعد اختباره، أو تدريبه، بحيث لا يدخل أى سباك الى أى منزل الا إذا كان يحمل رخصة من نقابة السباكين، تكون غير قابلة للتزوير مثل بطاقة الرقم القومي.
سادساً: تقوم النقابة بالتفتيش والمراقبة على المهن الثابتة مثل الأطباء والمعلمين، والمحامين والمهندسين…الخ، ويكون التفتيش الدورى لضمان أداء الخدمة على المستوى الذى حددته النقابة، فيكون هناك معايير لعيادة الطبيب من حيث النظافة والتأثيث، وعدد المرضى المرخص له بالكشف عليهم يوميا….الخ
سابعاً: يكون للنقابات مكاتب خاصة لتلقى الشكاوى، ويتم الفصل فيها بنظام شفاف يشرك صاحب الشكوى، ويضمن حصوله على حقه اذا تعرض للغش، أو الخداع.
ثامناً: يتم تمويل النقابات فى البداية بقروض ميسرة من بنك ناصر الاجتماعى أو أى مصدر مثيل له، على أن تسدد القروض من اشتراكات الأعضاء بعد مرور السنة الأولى.
تاسعاً: تقوم النقابة بتوظيف شباب ذوى خبرة وتأهيل من المهنة نفسها، بعد تدريبهم داخل مصر وخارجها، لضمان تحقيق أفضل الممارسات.
اذا تحقق ذلك ستقوم النقابة بالدور الرقابى والتنظيمى للوزارة التى تقع ضمن اختصاصاتها؛ دون أن تحمل الدولة هذا العبء، وفى الوقت نفسه تكون متحررة من فساد البيروقراطية، وسيتم بذلك تنظيم المهن والحرف بطريقة تقضى على الفساد الأخطر فى مصر؛ وهو فساد المهن والحرف، ففساد الأطباء والسباكين أخطر على الانسان العادى من فساد البيروقراطية وأجهزة الحكومة، وفى الوقت نفسه ستقوم هذه النقابات بفتح فروع عديدة اذا ما طبقت هذه الرؤية مما سيحقق مزيدا من التشغيل ويسهم فى القضاء على البطالة..
وهذا النظام ليس جديدا بل تطبقه دول أمريكا اللاتينية منذ زمن، وتعتمد عليه فى تنظيم المجتمع والدولة، بل انه أصبح نظرية يدرسها طلاب العلوم السياسية فى نظم الحكم يسمونها الكوربراتية Corpratism لذلك لن يكون صعبا السير فى هذا الطريق، وتطبيق هذه الخطة.