رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

ليلة عدلى منصور

عندما صعدت للمنصة وما أدراك ما المنصة لأتسلم من المستشار عدلى منصور نسخة من كتاب مكتبة الإسكندرية عنه. موقعة بإهداء جميل بخطه الدقيق مثل خطوط معظم قضاة مصر. راودتنى كلمات. كبحت شبق الكلام. ولأننى لم أحب أن أبدو مثل الآخرين ما إن أجد نفسى على المنصة وبالقرب منى ميكروفون حتى تنطلق الكلمات بمبرر وبدون مبرر. فلأكتب ما أريد قوله. أعمم الفائدة وأشرك من لم يكن موجوداً بالقاعة فى الأفكار التى دارت برأسى فى اللحظة التى كان الرجل يسلمنى الكتاب بابتسامة حقيقية صادرة من قلبه وبترحيب وود غير متصنعين كما تعودنا من أحضان وقبلات ما نسميه من باب الخطأ اللغوى النخبة المصرية الآن.

لحظة دخولى القاعة قابلت المستشار عدلى منصور، على يمينه الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية. والدكتور خالد عزب، دينامو مكتبة الإسكندرية، وبالقرب منا الدكتور يحيى الجمل. قلت لعدلى منصور فالرجل أصبح أكبر من الألقاب توجد جائزة إفريقية تسمى جائزة الحكم الرشيد. تمنحها مؤسسات «مو إبراهيم« من مقرها فى لندن. صاحبها صديقنا السودانى الجميل: محمد إبراهيم. قابلته وتعرفت عليه فى الصالون الثقافى للدكتور أحمد العزبى.

قيمة الجائزة مليون دولار. تمنح لأى حاكم إفريقى وصل للحكم بطريقة ديمقراطية. ثم ترك الحكم من تلقاء نفسه وبرغبته. حصل عليها من قبل عبد الرحمن سوار الذهب من السودان. لو أنه أى عدلى منصور حصل على الجائزة. ماذا سيفعل بالمليون دولار؟ وأنا أحسب الأموال بحسابات قريتى. فماذا يمكن أن تفعل المليون دولار الآن؟. قال الرجل وكأن الرد كان جاهزاً على لسانه. سأتبرع بالمبلغ لبلدى مصر. أقدمه لبلدى بالرضاء الكامل. ومن تلقاء نفسى. وكان الصدق يفوح من أحرف كلماته وتعلن عنه ملامح وجهه.

احتفال مكتبة الإسكندرية الجهة الوحيدة التى تنبهت لدلالات عدلى منصور حاكماً. وعدلى منصور تاركاً الحكم برغبته. وعودته إلى بيته المحكمة الدستورية. يقدم لنا فى مصر هنا والآن ما يمكن أن نسميه القدوة. بعد إن اغتلنا كل ما يمكن أن يكون قدوة لنا فى سنوات الحكم السابقة. وحتى ما بعد ظروفنا الجديدة.

لم نترك رمزاً من رموزنا إلا قمنا بتجريحه. وبحثنا عن نقاط ضعفه. وإن كان دوره العام ناصعاً. لا يمكن الاقتراب منه تسللنا لحياته الشخصية. وعلاقاته الإنسانية. لدرجة أننا لم نترك رمزاً من رموز مصر القديمة. والمسيحية. والإسلامية. والحديثة. دون هدم. والأدلة على ذلك أكثر من الهم على القلب.

بعض الشباب كان يستوقفنى ليسألنى عن قدوة يمكن أن يقتدى بها فى حياته. وكنت أتلعثم وأتردد وأخشى أن أذكر هذا الاسم أو ذاك من الأحياء أو الأموات. لأن طوفان التشكيك والبحث عن نقاط الضعف. والنظر فى نصف الكوب الفارغ فى حياة هؤلاء الناس لم يترك لنا أحداً.

لدينا رجل قدَّم ما لا يستطيع الكثير منا تقديمه. ويمكن أن نلوك الكلمات. وأن نلوث صفحاتنا بحبر أقلامنا بالقول إن كل واحد منا مستعد أن يفعل ما فعله. لكنه كلام نظرى نمارسه فى مكاتبنا. ونتوسع فى بحار الكذب عندما نقول إننا نرفض الإغراءات الثلاثة التى نلهث وراءها: المال، السلطة، النفوذ. ولكن عند الامتحان يهان المرء لأن الكلام النظرى غير السلوك العملى.

نحن أمام رجل لم يتكلم ولم يعلن. لكنه فعل ما فعله دون أى عبارات ضخمة ولا فخمة. لأنها تشكل قناعته الشخصية. ويجب أن نعلى من هذه القيمة. وما فعلته مكتبة الإسكندرية هى إشارة مهمة فى وقتها عندما تشير لرجل اتخذ قرارين مهمين ليس فى حياته الشخصية. ولكن فى مصيره ومصير مصر فى العصر الحديث. عندما قبل أن يكون رئيساً فى ظرف شديد الدقة. وعندما ترك مكانه فى الوقت المناسب. بصرف النظر عن إغراءات السلطة.

كنت أريد أن أقول إننى رأيت عدلى منصور ثلاث مرات خلال سنة رئاسته لمصر. التى كان يصر على أنها رئاسة مؤقتة. وعلى أنه رئيس مؤقت. ومن يكن ينسى أو يتناسى هذا الوصف منا من باب المداهنة والرياء والنفاق. كان لا ينسى أن يذكره به. ولكن فى اللقاءات الثلاثة لم ألحظ أى تغيير طرأ على الرجل بسبب الجلوس على الكرسى الذى أوصل بعض من جلسوا عليه إلى الجنون. كانت كلمات الرجل وطريقة سلوكه وتصرفه تؤكد أن بداخله مناعة ضد أمراض السلطة وإغراءات الكرسى والتحولات التى يمكن أن تحدث لاى إنسان بسبب وجوده فى هذا المكان.

كنت أريد أن أقول اننى سألت عن سعر الكتاب لحظة دخولى القاعة. فقيل لى ان ثمنه بعد الخصم مائتا جنيه. مبلغ مهول بالنسبة للقوة الشرائية لدى أى قارئ مصرى. فماذا يفعل المصرى العادى إن رغب فى قراءة الكتاب؟ من رابع المستحيل أن أطلب منه شراء الكتاب. لأن متطلبات الحياة اليومية لا ترحم أحداً ولا تترك له ترفا أن يدفع مائة جنيه ثمناً لكتاب. فمن أين سيجد متطلبات حياته الأخرى؟.

كان من المستحيل علىَّ أن أطلب من مكتبة الإسكندرية تخفيض السعر أكثر من التخفيض الذى أدخلته عليه. ولكن ما المانع من صدور طبعة شعبية من الكتاب؟ إما من خلال مشروع مكتبة الأسرة الذى يقوده بهمة واقتدار الدكتور أحمد مجاهد. أو إحدى مؤسساتنا الصحفية التى يمكن أن تصدر طبعة متقشفة بسيطة يكون سعرها فى متناول أيدى الناس.

ما قيمة رسالة الكتاب إن كان سيبقى رهين المائتى جنيه للنسخة الواحدة؟ هذا معناه أن الكتاب سيدور فى حلقة النخبة المفرغة. ولن يصل للناس العاديين. وحتى إن تم عمل طبعة شعبية منه بسعر أرخص. فإن تأثير الكتاب لن يخرج عمن يكتبون ويقرأون. ويجب ألا ننسى أن 40% من المصريين يعانون من الأمية. وهم الأكثر احتياجاً للتمعن فى درس عدلى منصور. الذى يقول إن الخط المستقيم أكثر مسافة بين أى نقطتين. وأن الالتزام به أفضل من أى لف وأى دوران.

جيلنا يدرك ما فعله عدلى منصور. والأهم أن تدرك الأجيال القادمة ما قام به وأن نحارب النسيان.


لمزيد من مقالات يوسف القعيد

رابط دائم: