رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

عن الاغتراب.. قديما وحديثا

ليس من السهل تعريف «الاغتراب»، وإن لم يكن من الصعب التعرف عليه وتقديم أمثلة له، فى اللغة العربية توحى كلمة «الاغتراب» بمعنى مختلف عما توحى به كلمة «الغربة»، فالمقصود بـ«الغربة» عادة، ما قد يشعر به المرء وهو خارج بلده ووطنه، أما الاغتراب فيشير عادة الى شعور المرء بأنه غريب دون أن يغادر وطنه وأهله.

الشعور بالاغتراب إذن ليس مما يحبه المرء أو يتمناه، إذ من الذى يحب أن يشعر بأنه غريب وهو وسط أهله؟ ولكن من المؤكد أيضا أن احتمال الشعور بالاغتراب يزيد بتطور الحضارة، ونمو المدن، وتقدم الصناعة على حساب الزراعة، وحلول الآلة محل العمل الإنساني، وكذلك بحلول نظام ديكتاتورى محل الديمقراطية.

فى القرن التاسع عشر كان أشهر من تكلم عن ظاهرة الاغتراب هو كارل ماركس، وكانت أهم صور الاغتراب فى نظره، ما يشعر به العامل الصناعى الخاضع للاستغلال من جانب رب العمل، فلنتصور عاملا يعيش فى المدينة، ولكنه حديث العهد بترك قريته، ومضطر من أجل كسب قوته وقوت عياله الى الاشتغال فى مصنع ساعات طوال كل يوم، لا يتحدد الوقت الذى يبدأ فيه عمله أو ينتهى بإرادته هو، بل بإرادة شخص غيره، كما أن طبيعة السلعة التى يشترك فى انتاجها مفروضة عليه من رب العمل، طريقة الانتاج ميكانيكية رتيبة لا يمارس فيها العامل أى مهارة أو موهبة، ولا يختلف ما يقوم به عما يمكن للآلة نفسها أن تؤديه، وقت الفراغ الذى يترك له بعد الانتهاء من عمله قصير للغاية، لا يكاد يكفى لأكثر من النوم، والسلعة التى تنتج فى النهاية لا يظفر العامل إلا بجزء صغير من قيمتها، إذ يستأثر رب العمل بالجزء الأكبر منها هو ما سماه ماركس «فائض القيمة»، ويعجز العامل فى معظم الأحوال، حتى عن شراء ما يمكن أن يحتاجه هو من هذه السلعة التى قام بإنتاجها، كأمتار من النسيج الذى يحتاجه لملابسه وملابس أسرته، أو كمية من الفحم للتدفئة.

فى بداية القرن العشرين لم يكن من المتوقع أن تنتهى ظاهرة الاغتراب، ولكن كان لابد أن يطرأ بعض التغير على أهم صورها، لم يتحسن حال العامل الصناعى كثيرا عما كان فى منتصف القرن السابق، برغم ما أحرزته نقابات العمال من مكاسب فى صورة زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل، بل زاد من محنة العامل الصناعى ما أدى إليه استخدام «خط التجميع» فى بداية القرن العشرين، إذ أصبح على العامل التحرك بما يلائم حركة الآلة، وإلا تعطل الإنتاج، فإذا بالعامل يجبر على التخلى عن جزء من آدميته، مما صوره تصويرا بديعا فيلم شارلى شابلن الشهير «الأزمنة الحديثة» فى 1936.

فى فترة ما بين الحربين العالميتين، شهد العالم الصناعي، سواء الرأسمالى منه أو الاشتراكي، ظهور صورة بشعة من الديكتاتورية، النازية فى ألمانيا، والفاشية فى إيطاليا، والستالينية فى الاتحاد السوفيتي، عانى فيها مواطنو هذه البلاد، من العمال وغير العمال، من صور جديدة من الاغتراب، لم يكن من السهل أن تخطر بذهن رجل ينتمى الى القرن التاسع عشر مثل كارل ماركس، وان كان لابد أن تثير مشاعر أدباء وفنانى القرن العشرين، من هؤلاء سخر شارلى شابلن، مرة أخري، من هتلر وموسلينى فى فيلم «الديكتاتور العظيم»، الذى صور فيه حيرة المواطن البسيط فى محاولته التعبير عن نفسه فى مواجهة سلطة الدولة التعسفية، كما سخر الروسى هكسلى من محاولة الدولة الشمولية تغييب وعى الناس، فى رواية «عالم رائع جديد»، وكذلك جورج أورويل فى روايته «1984» التى نشرت فى أواخر الأربعينيات، لم يستخدم أورويل ولا هكسلى «ولا شابلن بالطبع» لفظ «الاغتراب»، ولكن الاغتراب كان من أهم أسباب سخطهم على الديكتاتورية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

مر الآن ثلثا قرن على نشر رواية أورويل، وأكثر من ثمانين عاما على نشر رواية هكسلي، حدثت خلالها أشياء كثيرة كان لابد أن تغير من صورة الاغتراب الذى يعانى منه الانسان فى العصر الحديث تغييرا جوهريا، بالمقارنة بما كانت عليه فى منتصف القرن العشرين، وكذلك بالطبع بما كانت عليه فى منتصف القرن التاسع عشر، هناك أولا ما حدث من تطور فى وسائل الإعلام، مما جعل الوسائل التى كان يستخدمها هتلر أو موسولينى أو ستالين لغسيل المخ، تبدو لنا الآن بدائية للغاية وبالغة السذاجة، لم يستخدم أى من هؤلاء الزعماء الثلاثة جهاز التليفزيون، ونحن نعرف الآن دور التليفزيون فى الترويج لعكس الحقيقة، مع اتقان اللعب بعواطف الناس وبأفكارهم، بالصورة والكلام والموسيقي، حتى أصبح التعرض لكثير مما يعرضه التليفزيون فى البلاد الديكتاتورية يترك المرء شاعرا بنوع من المرارة مصدرها الشعور بالاغتراب.

كذلك لم يعرف النصف الأول من القرن العشرين، ولا بالطبع القرن السابق عليه، هذه الظاهرة التى نعرفها الآن جيدا ونسميها «المجتمع الاستهلاكي»، ظاهرة المجتمع الاستهلاكى تولد نوعا من الشعور بالاغتراب، ليس فقط لدى الشخص العاجز عن الحصول على ما يصادفه يوميا من محاولات لحفزه على اقتناء ما لا يستطيع اقتناءه، بل أيضا لدى المثقف الذى لا يستطيع التجاوب مع هذه الدعوة المستمرة الى الاستحواذ، إذ يجد نفسه فى مهرجان عظيم يشترك فيه الآلاف المؤلفة من الناس، باستعراض آخر ما اقتنوه، وما حققوه من مكاسب مادية، دون أن يجد فى نفسه الرغبة فى مشاركتهم فى هذا الاحتفال.

كان العامل الصناعى فى عصر ماركس يشعر بالاغتراب فى مجتمع يحرمه من اشباع كثير من حاجاته المادية والنفسية، ومع تطور أدوات الانتاج أجبر على أن يكيف حركاته ومشاعره بما يتلاءم مع حركة الآلة ومتطلباتها، ولكن قد حل مجتمع الخدمات محل المجتمع الصناعي، وزاد وقت الفراغ المتاح للجميع، فإذا بالعامل أو الموظف يعانى نوعا جديدا من الاغتراب لم يعد بنفس الدرجة عبدا مطيعا لمتطلبات الآلة، ولكنه أصبح عبدا مطيعا لمتطلبات المجتمع الاستهلاكي.

مهما قيل عن جشع الرأسماليين وقيامهم بقهر العمال من أجل تحقيق أقصى ربح، فقد ظل «الاقتصاد» طوال القرن التاسع عشر بل وحتى خلال النصف الأول من القرن العشرين، جزءا من الحياة دون أن يكون الحياة كلها، ثم بدأ طغيان «الاقتصاد» واكتساحه لمختلف جوانب حياتنا فى النصف الثانى من القرن العشرين، حتى كادت تختفى الأشياء التى لا يمكن شراؤها بالنقود، واصبح اكتساح الاقتصاد لحياتنا مصدرا جديدا من مصادر الاغتراب، بل كاد يصبح مصدره الرئيسي، ذلك أن الإنسان مهما بدا لنا أحيانا جشعه وأنانيته، سيظل يحمل فى داخله الجانب الروحى الذى يستحيل، فيما أظن، استئصاله، والعدوان على هذا الجانب الروحى بتغليب الاعتبارات الاقتصادية لابد أن يصيب المرء بالاغتراب.

إن هذا الاكتساح من جانب الاقتصاد لمختلف جوانب حياتنا، ربما يتحمل أيضا أكبر قدر من المسئولية عما أصاب «الديمقراطية» من محنة وضعف طوال الخمسين عاما الماضية، حتى فى أكثر الدول الديمقراطية عراقة، وهكذا أصبح لدينا مصدر جديد للشعور بالاغتراب، يحل محل تلك الصور القديمة والبالية للديكتاتورية.


لمزيد من مقالات د‏.‏ جلال أمين

رابط دائم: