رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الاستثمار الكورى فى المستقبل

الكوريون الجنوبيون يذهلونك بسرعة ركضهم نحو المستقبل، فما من مسئول، أو مواطن عادى تجلس معه إلا ويحدثك بشغف بالغ عن آمال ومشاريع مستقبلية ـ مشفوعة بالنفاذ بالطبع ـ . فرهانات الشعب الكورى كلها على المستقبل، وغير مقبول فتح مساحات للفشل، ولا التذرع والتحجج بصعوبة وتعقيدات الوضع، واضاعة الوقت وشغل التفكير بما جرى فى الماضي، فهو يظهر ـ الماضى ـ فقط كوسيلة ايضاح لأخطاء غير مرغوب فى تكرارها وكمنصة تكريم وافتخار لمنجزات الاجداد والآباء.

وما يميز كوريا الجنوبية أنها تقدم تجربة ثرية متجددة ليس فى الوصول لأعلى درجات سلم التقدم الاقتصادى والتكنولوجى وحسب، بل أيضا فى الابداع والاستثمار بالمستقبل عبر ثلاثة مسارات، هى التعليم، والتجفيف المتواصل لمنابع الفساد، لا سيما فى الأوساط الرسمية، وصناعة السعادة.

فأثناء زيارة لسول الأسبوع الفائت توافد على العاصمة الكورية جون كيرى وزير الخارجية الأمريكية، وناريندرا مودى رئيس وزراء الهند، وبان كى مون الأمين العام للأمم المتحدة الذى يزور بلاده للمرة الأولى منذ عامين، بالإضافة إلى عقد عدة منتديات دولية مهمة عن الإعلام، والالكترونيات، وكما نرى فإننا أمام شخصيات ثقيلة بالمعيار السياسى والاقتصادى ومع ذلك لم يكونوا هم الحدث الأبرز الذى استحق المتابعة والعناية الفائقة، إذ اتجهت الأنظار والابصار لاستضافة كوريا الجنوبية للمنتدى الدولى للتعليم الذى شارك فيه 1500 من المسئولين العالميين ووزراء وخبراء التعليم والمنظمات غير الحكومية. لا أدرى ما إذا كانت الحكومة المصرية قد دعيت للمشاركة بالمنتدى أم لا، وإن كان المؤكد أن خسارتنا كبيرة بالغياب عن هذا المحفل المهم.

فالتعليم كان ـ ولا يزال ـ كلمة السر فيما وصل إليه الشطر الجنوبى الذى قالت رئيسته «بارك هيون ـ هى» إن التعليم احدث معجزة على ضفاف هان ـ نهر يشطر سول لنصفين وقامت عليه حضارة كوريا ـ وإن بلدها يود رد الجميل للعالم الذى ساندها فى العسر بتزويده بما تحت يدها من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، من أجل تحسين المستوى التعليمى والارتقاء به وجعله متاحا لأكبر عدد ممكن فى شتى بقاع الأرض ـ 57 مليون طفل محرومون من التعليم ـ بغرض القضاء على الفقر المدقع الذى يرزح تحت نيره مليار نسمة، فطالما وجد الفقر اختفى التعليم .

فى هذا السياق فإن كوريا تعتبر أن مستقبلها مرتبط بالتعليم ـ الحكومة تنفق 29 مليار دولار سنويا على التعليم ـ وتستثمر فيه بكثافة من زاويتين هما، تحسين جودته، وتذليل العقبات والعوائق الحائلة دون تنمية المهارات والقدرات الابداعية للطلاب من سن الحضانة حتى التخرج فى الجامعة، كما تخصص 23 مليار دولار سنويا للبحث العلمي، فهؤلاء هم من سيحافظون على التقدم، فالحجر على الابداع والتضييق عليه يعد بمنزلة حكم اعدام غير قابل للنقض للمستقبل ورافده. فكم رأينا فى مصرنا من مبدع وعالم حُرم من البروز وتكالب عليه الحاقدون والفاشلون والمدعون، فمنهم مَنْ هجر الوطن، ومَنْ اكتأب ومات كمدا وحسرة، ومَنْ اختار وأد ابداعه وأفكاره وسط مجتمع لا يقدرهم ولا يرعاهم، المحصلة كانت أننا نتكلم عن النهضة منذ عهد محمد على ولم ندركها بعد، فكيف سنقتنصها ونحن نفرط فى ثروتنا وذخيرتنا من البشر الأكفاء بدلا من أن نهيئ لهم بيئة صحية تساعدهم على اخراج أفضل ما لديهم .

وجانب من الاستثمار الكورى الجنوبى فى القطاع التعليمى يتصل بتدريب المعلم باستمرار لأنه يُنظر إليه كقيمة اجتماعية ووطنية كبيرة، ويعبر عن ذلك مقولة شائعة نصها «أنه يجب على الطالب توقير معلمه لدرجة أنه لا يجوز له ـ التلميذ ـ أن يطأ بقدميه على ظله». ذاك تقريبا مع اختلاف فى الصياغة ما كنا نردده قديما حول أن المعلم كاد أن يكون رسولا قبل أن يتجرأ عليه الطلاب بالقول وباليد، وأن ينسى مهمته الاساسية بالتدريس داخل الفصل لانشغاله بالدروس الخصوصية تلك الآفة التى لم نجد حلا لها بعد، فضلا عن كون المدرس غير مؤهل فى الاغلب الاعم، اما فى كوريا الجنوبية فالوضع مختلف، حيث يخضع المعلم لاختبارات قاسية قبل منحه رخصة التدريس، ويتلقى دورات تدريبية متواصلة، ومحظور عليه اعطاء دروس خصوصية وإن ضبط بهذا الجُرم فإن عقابه الحرمان من التدريس، ويتقاضى أجرا يغنيه ويوفر له الحياة الكريمة المناسبة. وإن اخطأ المعلم الكورى فلا حصانة له مهما تكن مكانته رفيعة فلا تهاون مع الخطأ، ففى الأسبوع الماضى احتفلت كوريا الجنوبية بيوم المدرس الذى يعد ضمن ثلاثة احتفال ات كبرى فى شهر مايو من كل عام إلى جوار يوم الأسرة ويوم الأطفال، وطغى على الاحتفال الكلام عن اصدار محكمة كورية حكما بالسجن لعامين ونصف العام على البروفيسور كانج سوك ـ جين الأستاذ السابق بجامعة «سول» الوطنية لإدانته بتهمة التحرش بطالبة ولم يشفع له أنه أشهر أستاذ فى علوم الرياضيات بالبلاد ومن الأسماء العلمية البارزة فى الداخل والخارج. الاستثمار الكورى فى التعليم غير مقصور على الطلبة وحدهم ويشمل كذلك الآباء الذين يلعبون دورا حيويا ـ الأسرة الكورية تنفق 25% من دخلها على تعليم أبنائهاـ فالصحف الكورية تصدر ملاحق خاصة تعطى من خلالها نصائح وارشادات عن أحسن الطرق لمساعدة الأولاد على المذاكرة، وتخصص برامج حكومية لنفس الغرض، ومن ثم أضحى التعليم مسئولية مشتركة للدولة وللمدرسة وللأسرة أى للمجتمع بأسره، ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله.


لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي

رابط دائم: