رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

صناعة الخديعة!

يرفع الصبى صوته بالهتاف:« قادم .. قادم يا إسلام«، فى سياق بحثه عن إسلام يخصه دشنه حسن البنا وسيد قطب، وتحت مظلة رجعية بامتياز، يتداخل فيها السياسى بالديني، ويظل هتاف الصبى المدفوع بجملة من التناقضات والأفكار المرتبكة عنوانا على فهم أحادى ومغلوط للعالم. لكن يبقى ثمة سؤال حتمي: من الذى دفع الصبى لتلك الهاوية؟

من أين استقى قناعاته المراهقة عن فرضية غياب الإسلام وحتمية عودته؟! وماذا عن أولئك الذين يعود معهم؟! وماذا عن اليقين الذى لا يدع أية فرصة للتفكير حول هذا الغياب الوهمي، وتلك العودة الافتراضية؟!

ربما فى لغة الصبى المترعة باليقين جزء من الجواب، فإلغاء العقل وغلق مداراته ودحض قيم الشك والتأمل والمساءلة تعزز من غياب قيمة التفكير ذاتها، والتى تصير ترفا فى سياق يدفع للتسليم والاتكاء على المقولات الجاهزة، والعبارات المسكوكة وتبنى دوالها ومدلولاتها فى آن. إنه الاعتقاد المطلق إذن بامتلاك اليقين، بالقبض على الحقيقة، مع أن العالم نسبي، ولا أحد يستطيع أن يزعم قبضه على مفاتيحه، فالحياة بنت التحول، والتغير سنتها السرمدية، والتنوع سمة كونية وإنسانية فى آن، والله تعالى يقول فى محكم آياته: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين». لكن كيف تسرب للصبى هذا اليقين العارم فى أنه يحمل جوهر الإسلام، أو بالأحرى كيف تزعم جماعة الصبى وشيوخه ومن والاهم أنهم يعلمون مراد الله، ويحتكرون الحديث باسمه، من جعلهم وكلاء للسماء، من خلق كل هذا الكهنوت الجديد؟!

يبدو السؤال عين الجواب هنا، فالادعاء القاطع بأن ثمة جماعة تعرف مراد الله، وتصبغ على معاركها السياسية غطاءات دينية زائفة، يمثل جوهر ما تفعله جماعة الإخوان وحلفاؤها الآن، وليس جوهر الإسلام الذى لا يمثله أحد ولا تختزله جماعة تلوغ فى الدماء المصرية منذ بدايات النشأة وحتى الآن، فتقتل بدم بارد العسكريين والمدنيين قربانا لسلطة هى لديهم الوجهة والمراد الحقيقي، وربما يفيدنا فى التحليل أكثر ما نراه من حوادث عنف يومى تبدأ بالقنابل وتنتهى بالدماء، عبر خطاب ديني/ سياسى يكرس للمواجهة المسلحة، بل وأنشأ تحالفا مزعوما من كل تيارات الرجعية والتطرف، يقود الحراك الدموى الذى تصنعه جماعات التشدد الدينى والإرهاب الآن، وبما يعنى أن منطق القتل مصاحب لمنطق التكفير، وكلا المنطقين يتكئ بالأساس على فهم أحادي/ يقيني/ ثابت/ جامد/ دموى للعالم والحقيقة والأشياء.

وربما يتسع المدى أكثر حين يغادر الصبى الغض منطقة البراءة الأولى، فيتلمس منطق الحياة ذاتها عبر تصورات شيوخه الرجعية، فيبح صوته فى مظاهرات الخراب الإخوانى ليعلن بعد جملة من الهتافات المتناقضة، التى لم تزل تخلط بين السياسى والديني، تنتهى على وقع أنشودة إخوانية لم تزل تستخدم لغة القتل فى حماسة لا نهائية، فتكرس لأسطورة الدم ولا شيء سواه :« لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما«!!. تتجاوز خطورة التوظيف السياسى للمقدس هنا أعلى درجات البشاعة والقبح، وبما يفضى إلى انحطاط تاريخى يعود بنا لعشرات القرون إلى الوراء، ويدفع بأمتنا صوب صيغ طائفية ومذهبية وقعت فى شراكها وفخاخها حواضر كبرى فى بلدان عربية أخرى.

من يوقف زحف الوهم المقدس على عقلية الصبى الغض؟! فى سياق يعادى قيم العلم والتقدم والمدنية، لم يزل قاموسه يعرف كلمة » المصادرة«، ولم يزل يحاصر حرية الرأى والتعبير تحت دعاوى زائفة تتمسح تارة بالدين، وتارة بالرطان الذى لا ينتج شيئا سوى لجاجة شرعنة الميتافيزيقا، والهيمنة على العقل، تعبيرا عن أقصى درجات الهزيمة الجماعية لأمة فى خطر، والخطر هنا جملة من الإشكاليات المانعة للتقدم، تكريسا لكل مظاهر القمع والتخلف والاستبداد السياسى والديني. من الذى لم يعلم الصبى أن الوطن رحم كبير، يسع الناس بمعتقداتهم وأفكارهم وأيديولوجياتهم المختلفة، وأن محاولة فرض تصور سابق التجهيز فى معامل البداوة يفقد الوطن معناه، فمعنى الوطن فى بلدان مثل المحروسة موصول بخيط التراكم الحضاري، والتنوع الخلاق، فيصير التعدد فى مصرنا قيمة، والاختلاف فضيلة، أما إحلال التوهمات محل الحقائق، وفرض نموذج بعينه للتدين الشكلاني، فإنه لن يفضى سوى لمزيد من الخراب فى بر الوطن، الذى سيصبح مشغولا بسفاسف الأمور، ويحيا على وقع الخديعة المأساوية لأمة أضحت خارج الزمن والتاريخ.

من تلك اللحظة الهاربة من عمر الوطن، من أربعين عاما تقريبا، تعيش مصر أسيرة التحالف بين الفساد والرجعية، ومن تزاوج كليهما نتج واقع سياسي/ ثقافى مشوه، يصادر العقل لمصلحة النقل، يقتل مبدعيه وكفاءاته، يحتفى بالضحالة، ويعادى العمق، يتعيش على الصيغ الرجراجة ويحبذها، ومن ثم تجده مع تجديد الخطاب الديني، ومع التكريس له فى آن!! تروج فيه صناعة التطرف كما تروج بضاعة الميتافيزيقا، وبينهما ومعهما أيضا جماعات تحمل جهلها المقدس، مثلما تحمل قنابلها وتشهر أسلحتها فى وجوهنا ووجوه ناسنا وجماهيرنا، تلك الجماهير التى آمنت أكثر من الساسة وصناع الاستراتيجيات الغائبة بأن فى الحياة متسعا لمزيد من البهجات العابرة، والحكايات النبيلة عن وطن قرر البقاء منذ أن كان.

أما المتواطئون بالصمت فى الصراع الحضارى المحتدم الآن، فهم أنصاف وأرباع المتعلمين فى المؤسسات الثقافية والتعليمية المختلفة، والمنوط بهم صناعة العقل العام، وتحريره، غير أن ثمة خليطا مدهشا لم يتخل عنه كثير من هؤلاء، حيث تقترن الحماقة ببلادة »الشماشرجية« و الثيران اللحيمة التى لم تزل تعتقد فى حقها التاريخى بحتمية البقاء عبر رطان فارغ، وخطاب ثقافى قديم وبائس لم يزل بحاجة ماسة إلى تحرير وتنوير جديدين.


لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله

رابط دائم: