رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

فى أصول حرق الدم

زاد الأمر كثيراً عن حده. فأغلب، إن لم يكن كل ما يجري حولنا، يدفع إلي حرق الدم، من ضغوط المعيشة إلي أخبار السياسة إلي مشاهد القتل والعنف اليومية إلي التصلب والعناد الفكري، إلي غياب الرؤية والتضييق علي الحريات، وغيرها من آلام تضمها قائمة طويلة من المواجع الجماهيرية.

وحرق الدم ليس مقصوراً علي المصريين، بل يشاركهم فيه أكثر العرب وشعوب أخري تجري مراكز بحوث متخصصة دراسات عليها لتتعرف علي أيها أكثر سعادة وأيها أكثر شقاءً، والمعروف أن الفضفضة إلي الناس أو الحديث مع الآخرين قد يخفف من حرق الدم. لكن النقاش حول الشئون العامة لم يعد معصوماً، إذ يتحول في بعض الأحيان إلي سبب إضافي إلي مزيد من حرق الدم. هذه الفضفضة أو النقاش يسمي بلغة المراكز البحثية ودارسي الشئون العامة بالعصف الفكري brainstorming.

ولمثل هذا العصف مزايا متنوعة من بينها التماس وجهة نظر الآخرين والاستئناس بما يملكونه من حلول، فضلاً عن أنه ينبه المرء لنفسه ويذكره بأنه لا يري إلا من زاوية واحدة وأن غيره يملك بصيرة قد تعينه علي الفهم والاستيعاب. لكن حتي العصف الفكري بين المصريين والعرب لم يعد يخلو من آلام، فهو عصف عن عصف أو قل عن عواصف تجتاح الأوطان والإقليم برمته. فلدينا حروب مشتعلة وإرهاب شرس وشعوب تعاني ودول تتمزق، قتل وسبي وجثث وأرامل ويتامي. رقاب مجزوزة ومدن مدمرة وممتلكات منهوبة. نشرات أخبار جعلت التوحش والعنف أشبه بروتين يومي مرعب مطلوب التعايش معه. مشاهد كلها تحرق الدم.

ولأن حرق الدم بات القاسم المشترك حالياً بين أكثر الناس في بلدنا والمنطقة فإنه يستحق وقفة، يركز هذا المقال من خلالها علي أربعة جوانب هي: (أ) أبرز المشاهد العامة التي تحرق الدم، (ب) أسباب حرق الدم، (ج) مستويات حرق الدم، وأخيراً (د) وسائل الوقاية من حرق الدم.

علي الجانب الأول تبدو المشاهد السياسية العامة التي تحرق الدم بلا نهاية، الاختيار بينها يظل انطباعيا يختلف من فرد إلي آخر، لكن تبقي حمامات الدم اليومية في سوريا ومشاهد القتل والتفجير في العراق واليمن وليبيا وأعمال العنف والإرهاب في مصر هي الأبشع، فغلايات الدم في مختلف أرجاء المنطقة تكفي لحرق دم من عنده دم، لكنها ليست الصورة الوحيدة، فالخطاب الطائفي المتصاعد بين السنة والشيعة يحرق الدم، والتنطع الديني للسلفيين الجهاديين يحرق الدم، والسماجة الثقافية لبعض الليبراليين والعلمانيين تحرق الدم، والخلافات العربية تحرق الدم، والبذاءات الإعلامية تحرق الدم. والقائمة طويلة تستطيع أن تضيف إليها ما تشاء.

لكن تلك المشاهد ليست وحدها هي التي تحرق الدم وإنما الأكثر منها هو الجانب الثاني للموضوع أو الأسباب التي تقف وراء تكرار تلك المشاهد. فما كان لهذه المآسي اليومية أن تحدث لولا أن كثيراً من دول المنطقة مجرد حبر علي ورق. لسان بلا جسد، دول ضعيفة وفاشلة، وهذا السبب وحده يحرق الدم. لكن ما يحرق الدم أكثر هو ذلك الإصرار المستمر علي تحميل مسئولية هذه المآسي علي التدخلات الخارجية وردها إلي الأيادي الأجنبية والمؤامرات الإقليمية والعالمية وحدها، وهي أسباب صحيحة لكن جزئيا، أما وضع اللوم كاملاً عليها فيحرق الدم ويفاقم المأساة الأكبر للعقل العربي المتمثلة في عشقه الرذيل للتفكير بالمؤامرة ونزعته لتفادي نقد الذات واعتبار العالم كله خائناً ومجرماً، وأننا لسنا إلا ضحية لدسائس الآخرين، فليس من سبب لحرق الدم أكثر من مناقشة عقيمة تحاول أن تضللك وتنسب ما يجري لغير أسبابه.

أما عن الجانب الثالث أو مستويات حرق الدم، فثلاثة: المحدود والمتوسط والمكثف. عند مستوي حرق الدم المحدود يظهر الفرد أدني درجات الغضب، والتي قد يعبر عنها بشكل خاطف مثلاً وهو يؤدي أعماله اليومية كأن يتناول الطعام أو يشرب الشاي أمام شاشات التليفزيون وهي تعرض صوراً لأشلاء القتلي أو مشاهد للتفجيرات، ويكشف هذا المستوي عن حالة بلادة أصابت نفرا ليس قليلا، بلادة تجعلنا نجمع بغرابة شديدة بين الغضب والاستمتاع، بين تناول الطعام بعفوية ومشاهدة صور القتلي بإنزعاج. أما المستوي المتوسط فيبدو عندما نجد مثلاً شخصاً وهو يضرب كفاً بكف ليعبر عن استيائه وانفعالاته وهو يحوقل (لا حول ولا قوة إلا بالله) أو يحسبن (حسبي الله ونعم الوكيل). وعادة ما يفقد الإنسان عند هذا المستوي شهيته ويشعر بأنه مشلول التفكير عكر المزاج فاقد للطاقة. أما المستوي المكثف فنصل إليه عندما يعلو الصوت ويحتدم الغضب في أثناء النقاش ليصل حرق الدم إلي ذروته والانفعال إلي قمته عندما يبدأ البعض في التفوه بألفاظ لا تليق أو الاصطدام مع الآخرين بعنف وبلا داع يستحق، خاصةً لو كان موضوع النقاش بسيطاً. ويبقي الجانب الرابع الخاص بالوقاية من حرق الدم. وهي مطلوبة بشدة لكنها غير مضمونة لأن الضغوط باتت تتجاوز حدود المعقول وتزيد علي قدرة معظم الناس علي التحمل. هناك فئة من الناس قد تبدو للآخرين وكأنها محظوظة لأنها لا تبالي ولا تكترث، انسحبت من المجال العام وألغت وعيها بالأشياء وبالأشخاص وبالأحداث مفضلةً العيش في عالمها الخاص أو التلهي بالمتع الرخيصة أو التفرغ لمشكلاتها الفردية. لكن هذه الطريقة ليست الأمثل ولا هي خيار كل الناس فضلاً عن أنها غير ممكنة طوال الوقت. فالكوارث تسعي بطبيعتها للنيل من الناس مهما حاول أكثرهم أن يبتعد عنها. لهذا، قد لا تبقي للفرد وسيلة يخفف بها حرق الدم أفضل من تدريب الذات علي ضبط النفس والارتقاء بردود الفعل تجاه الفواجع السياسية العربية من حالة التأثر العاطفي إلي محاولة الفهم العقلاني. فاستقبال ما يحرق الدم بالمشاعر فقط يلهبها ويؤججها. أما تلقيها بالعقل والتفهم فلن يلغي حرق الدم وإنما قد يهبط بدرجته من المستوي المكثف إلي المتوسط.

اللهم إنا نسألك ما يخفيف ما يحرق دمنا إلي أن نجد من يساعدنا علي تجديد دماء أوطاننا.

كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة


لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات

رابط دائم: