هذه الظاهرة أدت إلى اختلاط المعانى وتداخلها وارتباكها، بحيث أصبح المفهوم الواحد يجمع النقيضين معاً؛ دون أن يشعر المجتمع ومثقفوه وقادته أن هناك خللاً فى المعنى والمضمون، أى أن اللغة فقدت جزءاً أصيلا من دورها فلم تعد الألفاظ أوانى المعاني، بل أصبح اللفظ الواحد يجمع معنيين متناقضين أحدهما ظاهر والآخر خفي، ولكنه واضح وجلي.
وأؤكد هنا أننى أتناول هذا الموضوع دون تعريض بأشخاص أوهيئات، ولكن من خلال إبراز ظواهر يشهدها العالم العربى منذ السقوط الثانى لبغداد فى 2003، حيث تداخل هذان المفهومان معاً وصارا مفهوماً واحداً، الأحرار هم فى ذاتهم خونة، يناضلون بكل قوة لتحرير الأفراد من الإستبداد السياسي، ويدعون إلى الحرية الفردية، ويناضلون من أجل الديمقراطية، وفى الوقت نفسه يعملون لصالح قوى خارجية تستولى على أوطانهم، وتستعبد مجتمعاتهم، وتعبث بأقدارها، وتدمر تاريخها، وتربك مستقبلها، يفعلون هذا دون حياء أو خجل، وفى العلن وليس فى الخفاء، هم أحرار عند الحديث عن نظام الحكم، وخونة على مستوى سيادة الدولة واستقلالية المجتمع.
فى عام 2004 كتبتُ بحثاً مطولاً بعنوان الأبعاد الدولية للاستبداد السياسى فى النظم العربية:جدلية الداخلى والخارجي، نُشر فى كتاب الاستبداد فى نظم الحكم العربية المعاصرة الذى حرره الدكتور على خليفة الكوارى وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت، تناول هذا البحث دور الإستبداد الداخلى فى إستدعاء الاستعباد الخارجي، وخلص إلى أن نماذج الاستبداد الشرس مثل حالة العراق فى عهد صدام، وليبيا فى عهد القذافى هى من الحالات التى تفقد الإنسان كل قيم الانتماء الوطني، وتدفعه للتحالف مع الشيطان للتخلص من مثل هذه النظم المستبدة، ومن ثم تدفعه لاستدعاء الاستعباد للتخلص من الاستبداد.
ولكن لم يخطر على بالى فى ذلك الوقت أن هذا النموذج سوف يتم تعميمه على جميع بقاع الوطن العربى بما فيه مصر، أقدم دولة على ظهر الأرض، وأكثر شعب يتغنى ويغنى بالوطنية ولها، لم أكن أتصور، لقصور فى التوقع والخيال، أن يسير بعض المصريين وبعض السوريين وبعض اليمنيين ….الخ على خطى بعض النخبة العراقية البائسة التى جاءت مع المحتل الأمريكي، ثم استدعت المحتل الفارسي، وتدافع عن الاثنين بكل جرأة وصفاقة.
الأحرار الخونة أصبح وصفاً يرقى لأن يكون علميا إذا ما تتبعنا سلوك هذا الفصيل من النخب السياسية والثقافية فى العالم العربي، أولئك الذين يعارضون بكل قوة حكومات أوطانهم، ولهم كل الحق، وكل التقدير والاحترام، ولأنهم يرفعون راية الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، ويقاومون الظلم والإستبداد والعسف السلطوي، ولكنهم فى الوقت نفسه يستجدون القوى الخارجية، والدول الأجنبية لأن تساعدهم، وتمد يد العون لهم، وتحتل أوطانهم لتخلصهم من ظلم السلطة، ومن عسف الاستبداد، وتقدم لهم الحرية على مائدة جون بريمر الحاكم الأمريكى للعراق بعد التحرير!.
الأحرار الخونة أصبحوا جزءا أصيلا من المشهد الثقافى والسياسى العربي، ولم تعد هناك حساسية منهم، بل يتعامل معهم الجميع على أنهم ناشطون سياسيون، أو قيادات للمعارضة السياسية، أو ثوار، أو نخب حاكمة، فى كل الحالات هم ملء السمع والبصر، وفى كل الحالات لا يشكك أحد فى شرعية وجودهم، ولا يجرؤ أحد على أن يعارضهم.
ولننزل إلى أرض الواقع، ونقدم أمثلة عملية مما نشاهده كل يوم على شاشات الفضائيات، ولنتساءل: ماذا نسمى بعض أعضاء حركة إسلامية استمدت شرعيتها من مقاومة الاستعمار الإنجليزى والاستعمار الإسرائيلي، حين يستنجدون بالكونجرس والبيت الأبيض للتدخل فى مصر لإرجاعهم إلى كراسى الحكم، ويلتقطون الصور وينشرونها من داخل الكونجرس الأمريكي…ماذا نسمى هؤلاء؟.
وماذا نسمى قيادات المعارضة السورية الذين يطوفون العواصم، يستجدون التدخل الخارجى لتخليصهم من طاغية عصره، وهم يرتدون أفخم الملابس، ويقيمون فى أفخم الفنادق، ويقتاتون على دماء ربع مليون قتيل وستة ملايين مشرد….ماذا نسمى هؤلاء؟.
وماذا نطلق على صبيان اليمن الذين يريدون تسليم دولتهم للإمبراطورية الفارسية لتطوق جزيرة العرب، وتسيطر على بحار العرب، وتتحكم فى أمن قلب العالم العربي… وهم يفخرون كل الفخر بتبعيتهم لأسيادهم…ماذا نسمى هؤلاء؟
ومن يستطيع أن يجد لفظاً مناسباً لمن سلم وطنه للأمريكان تارة ثم للفرس تارة أخري…ويفخر أن الحرس الثورى جاء ليخلصه من عصابات داعش؛ التى ساهم فى صناعتها الحرس الثورى نفسه…وكأن العراق ليس فيه رجال قادرون على حماية وطنهم فيحميهم الحرس الثورى … حالة من الإستعباد السياسى والإستعباد النفسى الذى يقود إلى الإستسلام المطلق للجار العدو الصديق السيد….ماذا نسمى هؤلاء؟
وماذا نسمى المثقفين والثوار المصريين الذين يقتاتون على كل الموائد، يتاجرون بمشاركتهم ببضع كلمات فى ثورة يناير على شاشات الفضائيات، وبصورتين فى ميدان التحرير، ويتعاونون مع كل القوى الخارجية التى تقدم تمويلاً لتغيير النظام، أو إسقاطه لتحقيق أهداف الثورة…ماذا نطلق على هؤلاء؟
حالة عجيبة نعيشها تجتمع فيها المتناقضات، وتلتقى المتعارضات، ويتحقق فيها ما كان من المستحيل تصوره عقلا، حين يصبح الأحرار فى الداخل خونة فى الخارج، حين يتحول من يريد أن يحرر المواطن، يعمل فى الوقت عينه على استعباد الوطن واستعماره، فرضية عجيبة، كيف يمكن تحرير المواطن حين يكون الوطن مستعبداً؟
حالة العراق العظيم خير مثال لمن أراد أن يقدم دراسة موضوعية لهذه الظاهرة، وقد نشرتُ مقالاً موجزا فى 2004 عن انعكاسات الحالة العراقية على مستقبل الدولة فى المنطقة العربية تنبيء بهذه الحالة، والآن نتساءل: ماذا حدث بعد اثنتى عشرة سنة من تحرير المواطن من ظلم البعث من خلال قوى خارجية ودول أجنبية؟ هل أصبح العراقى حراً؟ وهل العراق أصبح دولة مستقلة؟ أسئلة مشروعة تقدم نموذجا للعالم العربى يسهم فى استشراف المستقبل.