من أين لموظف عام شريف أن يتحصل على مثل هذه الثروة؟ وأين هى فى إقرارات الذمة المالية التى كان يُقدِّمها دورياً منذ توليه العمل العام؟ وكم كانت تساوى جملة ممتلكاته المثبتة فى إقرار ذمته عندما تولى منصب الرئيس وعندما كان نائباً للرئيس؟ وأين إثباتات التزامه بالضرائب عن هذه الثروة؟ وكم جملة ما تحصل عليه من مداخيل رسمية عن مناصبه، مثل الرواتب والمكافآت والبدلات، طوال فترة عمله؟ وما نسبتها من قيمة المبالغ التى سيقوم بتسديدها وفق الحكم الأخير؟ وكيف يبرر هو هذا الثراء الذى هو عليه وعلى أفراد أسرته منذ تولى الوظائف الرسمية الرفيعة؟..إلخ إلخ. ولا يؤثر فى قوة الدليل أن يقوم صهره أو غيره بالسداد نيابة عنه، فلا أحد فى هذه الأوساط يدفع عن أحد مثل هذه المبالغ إلا بضمانة الاسترداد أو أن يكون الموقف مخالصة أو تصفية لجميل شبيه أو أكبر! وهذا دليل آخر ضد مبارك!. هذه الأدلة، ومثلها كثير، صارت تدخل فى مادة التاريخ ومحاكماته التى تتخفف من الكثير مما يعرقل نظام العدالة الحالى، وهو النظام الذى دعمه مبارك، بما توارثه عن عهود سابقة وبما أضافته ماكينة حكمه وأجهزتها التشريعية التى كان يفرض هو شخصياً سيطرته على قرارها بالكامل، فوضعت له الإجراءات الحمائية التى تعفيه من المساءلة، أو تلقى بعبء الإثبات على من يدعى، أو أن تقنن مصالحات غريبة مريبة تُصادر فيها المنهوبات ويسقط فيها الحق العام! لكل هذا كان من الصعب تصور أن يُدان مبارك، حتى فى أفعاله الصارخة، من نظام وضع هو أسسه وبارك فيه الباقى ممن سبقه!. لذلك، لم يستطع الكثيرون إخفاء فرحتهم مباشرة بعد صدور الحكم الأخير، وانتشرت بسرعة الضوء على الإنترنت صرخات «مبارك حرامى» و»مجرم»! وعلى الناحية الأخرى، تداخلت بعض الأصوات تدافع عنه، وتتحدث عن مرحلة تقاضٍ تالية أعربوا عن ثقتهم التامة أن تُبرِئ رئيسهم، مما جعل الموضوع معلقاً عند من تصور أن هذا الحكم هو نهاية المطاف وأن الإدانة نهائية باتة لا احتمال لتغييرها.
إذن، نحن لا نزال إزاء مراحل لاستنزاف الطاقة العامة فى مثل هذه النزاعات التى تتمحور حول مبارك ودوره ومسئولياته، وهو الجدل الذى شهد ذروته فى عزّ حكم مبارك!. والحقيقة أنه ينبغى، مع كل خطوة تبعدنا عن فرصة إعمال سبل العدالة الانتقالية، التى كان يمكن أن توفر على العمل العام مثل هذا الاستنزاف، أن يكون التركيز أكثر على المستقبل وقضايا البناء التى قامت الثورة من أجلها.
إن حق الشهداء، وهو حق لا ينبغى التفريط فى نقطة منه، سوف يتحقق ببناء الدولة التى كان يحلم بها الشهداء، لأنهم عندما خرجوا ضد مبارك وعائلته وحكمه ورجاله، لم يكونوا يهتفون بالعمل على القصاص من قتلتهم، الذين لم يكونوا قتلوهم بعد، وإنما كانوا يعبِّرون عن أحلامهم عن مستقبل هذا البلد.
أما اختراع تصدير القصاص على رأس مهام الثورة والتخطيط لتوريط الثورة فى أحابيل إقامته، فقد كانت فكرة إخوانية فى أساسها! ويمكن مراجعة مشهد تلقين مرشد الجماعة، بالقصاص القصاص، لمرشحه الرئاسى فى المؤتمر الصحفى الشهير، وهو ما أعقبه مباشرة وجود إخوانى فى كل المظاهرات تطالب بالقصاص، لإلهاء الجماهير عن قضية الحكم التى تفرغ لها الإخوان وحلفاؤهم مطمئنين إلى أن شبابهم يسوقون الشارع فى طريق آخر يبدد طاقة الثورة بعيداً عن سعيها من أجل أن يصل ممثلو الثورة إلى الحكم!.
لم تكن جرائم مبارك الأساسية فى رشاوى فيلل شرم الشيخ، ولا فى فساد تلفيقات القصور الرئاسية، وإنما فى تبديد فرص ثلاثين عاماً حكم فيها البلاد، بإهدار الطاقات وعرقلة إمكانات التطور وإضاعة حقوق الشعب وتخريب التعليم وإفساد الصحة واحتضان الفاسدين وإقصاء الكفاءات وضرب الوحدة الوطنية..إلخ.
سوف يحاكم التاريخ مبارك بلا رحمة عن كل ما عجز فيه نظام العدالة الحالى، يكفى نقطة واحدة تتفرع منها قضايا شتى، مثل حاشيته، بضعف المستوى العلمى وبافتقاد أهم المهارات السياسية وبالخواء الإنسانى، ولم ينج من كل هذه المباذل سوى عدد محدود عجز معظمهم عن المواكبة، فأبعد نفسه أو لفظته الماكينة! لم يفطن مبارك ولا معاونوه إلى التبعات الخطيرة لسلسلة من السياسات، أو للإهمال الذى تترتب عليه كوارث تعيش كثيراً وتنال من الحق العام.
انظر, وتمعن، مثالاً واحداً لظاهرة شاعت فى عصر مبارك، وهو شارع الملك فيصل وجواره وتفريعاته، وقد كان مجرد فكرة قبل مبارك ثم تجلت فى عصره، ثم قارن مع مشروع شرقى بحيرات عين شمس الذى سُمى فى نهاية المطاف «مصر الجديدة»!. سوف يحاكم التاريخ مبارك على تدهور العمارة، الذى، قبل أن يتسبب فى تراجع الذوق العام، فإنه يحيل حياة الناس إلى جحيم نتيجة للعشوائيات المنتهكة للخصوصية والملوثة للبيئة والمعرقلة للمرور والمسببة للأمراض والضاغطة على الأعصاب. بل وصل الخطر إلى حرم الهرم. وتذَكَّر أن عقد بناء مصر الجديدة جرى توقيعه عام 1905، وأن الدولة فرضت على المستثمرين، البارون امبان وباغوص نوبار، شروطاً هائلة مقابل الموافقة على بيع الصحراء لهم، بما يضمن أن يكون لمصر واحدة من أجمل ضواحى العالم، دون أن تتكبد الدولة شيئاً. أما مبارك وحاشيته، فقد جرت أمام أعينهم جرائم هائلة، بعد قرابة القرن، كان يُفترَض أن يتطور أداء الدولة إلى الأفضل، ولكنه، للأسف انتكس على أيديهم بما لم تشهده مصر منذ عصر محمد على. لم تشهد مصر قبل مبارك ظاهرة الدروس الخصوصية التى دمّرَت التعليم الرسمى والخاص وما عاد يمكن الإصلاح إلا بثورة حقيقية!. ولن يرحمه التاريخ على اعتماد نظامه على المصالحات العرفية فى قضايا العدوان على الأقباط وكنائسهم، ولا فى ألاعيبه مع الإخوان وحلفائهم بوهم أنه مسيطر على الأمر حتى تبين أنهم استفحلوا فى عصره بما لم يكن مسبوقاً.