رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

المشى على أشواك سياسية

لماذا تضطر دولة، أى دولة، إلى اللجوء لفقه المواءمات السياسية، إذا جاز التعبير؟ ولماذا لا تجرؤ على اتخاذ مواقف حاسمة فى بعض القضايا؟ ولماذا تفضل عدم الدخول فى صدامات مباشرة فى لحظة معينة؟ وهل هذه السياسة تؤدى إلى النجاح وتحقيق الأهداف النهائية؟ ولأى مدى تصمد توجهات من هذا النوع، وتتحول إلى منهج أو أسلوب حياة ؟

هذه أسئلة جوهرية، دارت فى أذهان مراقبين تابعوا الحالة المصرية خلال الفترة الماضية، بصورة بدت لهم أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يسير على حبال رفيعة، يضبط الحركة السياسية بطريقة دقيقة، حتى لا تختل التوازنات التى أقام عليها الحسابات، ليحقق جملة من المكاسب، دون أن يتكبد خسائر، وقد ظهرت تجليات هذه المسألة على المستوى الداخلى والخارجي، وكأنه يمسك بشعرة معاوية الشهيرة، إذا شدها خصومه أرخاها والعكس صحيح.

مع أن الرئيس السيسى يتعرض منذ فترة لحملة ضارية من البعض، لكنه لم يلجأ إلى اتخاذ إجراءات استثنائية، أو ضغوط معنوية يستطيع بموجبها، أن يوقف الهجوم والتشكيك واللغط، الذى طال الكثير من التوجهات السياسية والأمنية، ووصل إلى إثارة الغبار حول المشروعات الاقتصادية الكبري، ونال من السياسات الإيجابية فى مجال العدالة الاجتماعية، ووصل الصبر إلى حد عدم الاقتراب ممن تعمدوا تخريب النجاحات اللافتة على صعيد السياسة الخارجية، وتحمل جميع الانتقادات والاتهامات اللاذعة، من المؤيدين والمعارضين، والتى انحرفت أحيانا عن صوابها وبدت مخالفة للقانون.

الوضع على الصعيد الخارجي، قريب من هذه الصورة، لكن الفرق الجوهري، أن الرئيس السيسى يمسك بزمام المبادرة غالبا، ويحرص دائما على عدم المغالاة فى الخصومة، ويترك بعض الأبواب والنوافذ مفتوحة، سواء كخطوط للرجعة عند اللزوم، أو لتوظيفها عندما تتعقد الأوضاع، خاصة أن هناك التباسا يخيم على كثير من الأزمات الإقليمية، والتى تحرص مصر على المشى فوقها، وهى ممسكة بتلابيب بعض الخيوط الرئيسية.

المشهد الراهن فى عدد من القضايا الساخنة فى المنطقة، يكشف تفاصيل الحقيقة السابقة، ويشى بأن مصر منخرطة فى معظمها بدرجات مختلفة، وحذرها الشديد دفع إلى وضع حدود واضحة بين ما هو إستراتيجي، وما هو تكتيكي، ولأن التعقيدات كثيرة، والمناورات على أشدها، ولا توجد جهة تملك بمفردها مفاتيح الحل والعقد، بدا فى نظر البعض أن التكتيكى فى السياسة المصرية يتفوق باقتدار على الإستراتيجي.

خذ مثلا الموقف من الحرب فى اليمن، معروف أن مصر جزء أساسى من التحالف العربى الذى تقوده السعودية، وفى الوقت نفسه لم تغلق أبوابها أمام تمديد خيوط التواصل مع جهات يمنية تعد طرفا أصيلا فى معادلة الحرب والتسوية، وحتى إيران التى تدعم الحوثيين، ولعبت دورا مهما فى إشعال الموقف فى اليمن وبعض الدول العربية، لم تصل علاقاتها مع مصر إلى درجة الصدام المباشر، ويحرص الطرفان على تجنب الوصول إلى هذه النقطة المثيرة، والاحتفاظ بواحد أو أكثر من خطوط التراجع، كذلك الحال فى سوريا والعراق.

هناك تطوران حصلا خلال الأيام الماضية الوقوف عندهما، يكشف بجلاء عن الوجه الحقيقى لسياسة التوازنات الحرجة والسير فوق الأشواك.

الأول، يتعلق بزيارة كان من المتوقع أن يقوم بها الرئيس السيسى للمغرب فى نهاية الشهر الماضي، وهو فى طريقه إلى أسبانيا، على غرار زيارته للجزائر وهو فى طريقه لحضور القمة الأفريقية بغينيا الاستوائية، فى إشارة إلى المساواة بين البلدين اللدودين، ولأسباب بروتوكولية قيل أن زيارة المغرب تأجلت، وحسب بعض المعلومات المتوافرة يتم الإعداد لجولة يقوم فيها السيسى بزيارة دول الشمال الأفريقى الثلاث، تونس والجزائر والمغرب، وربما تشمل موريتانيا، اتساقا مع سياسة توطيد العلاقات مع طرف لن يكون على حساب طرف آخر.

الثاني، يخص العلاقة مع أثيوبيا، التى تديرها مصر بحذر شديد، لتقليل الخسائر الناجمة عن سد النهضة، ومحاولة إيجاد فرص لمكاسب فى مجالات متنوعة، فقد بدا التقارب معها كأنه يحمل مضامين سياسية ضد اريتريا، الخصم العنيد لأثيوبيا، والتى تحتفظ بشبكة جيدة من العلاقات مع مصر، من هنا قام السفير سامح شكرى وزير الخارجية الأسبوع الماضى بزيارة أسمرا، وهو ما خشى أن تفهمه أديس أبابا على أنه ازدواج أو ارتباك فى التوجهات المصرية، لذلك اختار الرئيس اليوم نفسه للإعلان عن تحرير المخابرات المصرية لـ 27 أثيوبيا من ليبيا، لامتصاص أى غضب ينجم عن زيارة اريتريا.

البانوراما السياسية السابقة، تعيدنى إلى ما طرحته من أسئلة شائكة فى بداية المقال، والتى يمكن تلخيص الإجابة عنها فى ثلاث نقاط رئيسية.

الأولي، فعلا هناك علم يمكن أن يوصف بـ «فقه المواءمات» تضطر إليه دول كثيرة صاعدة، لديها حزمة كبيرة من الأزمات، تضطرها إلى نسج علاقات عرضية، مع دول أو جماعات متناحرة أو منافسة، وفى أوقات الضباب السياسى تظهر أهمية هذا الفقه.

الثانية، أن المواقف الحدية والحاسمة وسط الغموض الذى يخيم على مصير الأزمات، قد تكون باهظة ومكلفة، بما لا تستطيع مصر، أو أى دولة فى مثل ظروفها، أن تتحمل تبعاتها، وهنا يفضل اللجوء إلى المرونة بدرجات مختلفة، حتى لو بدت كأنها ليونة أو ميوعة سياسية، لأن الصدام فى خضم التطورات الملتبسة، واهتزاز الجبهة الداخلية، ووجود أعداد من المتربصين والمتآمرين، يمكن أن يفتح المجال لثغرات ربما تؤدى إلى انهيار الدولة برمتها.

الثالثة، سياسة المشى على الأشواك، مع أنها تعبر عن حنكة وحكمة لدى المتمسكين بها، وتختلف كليا عن سياسة حافة الهاوية، لكن من الصعوبة أن تكون منهجا مستمرا، لأن عملية الضبط لا تتحكم فيها الدولة التى تتبناها فى جميع خيوطها (مصر مثلا)، ومن الممكن أن يحدث الانفلات فى أى لحظة، وتؤدى إلى خسائر غير متوقعة، وتصيب الأهداف المرجوة فى مقتل.

الأهم أنها تكون مقبولة ومفهومة فى أوقات معينة، لكن تحولها إلى سياسة دائمة يفقد الدولة المصرية حيويتها وقيادتها، ففى الجبهة الداخلية الصمت طويلا على الخطايا، سوف يفهم على أنه خمول وضعف ورخاوة غير مطلوبة، يمكن أن تدفع البعض إلى الابتزاز، لذلك من الضرورى أن يكون الحرص على السير فى هذا الطريق مرتهنا بقضايا وظروف محددة، دون أن يتحول إلى مبدأ حاكم للسياسة المصرية.


لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل

رابط دائم: