وهكذا بدأ مقاله بتسجيل نتيجة قبل أن يبرهن عليها، والحق أنه لم يبرهن على أى من الأحكام الباتة التى اطلقها متأثرا بحالة العداء للشيوعية التى انتجتها ماكينة الدعاية الجبارة واشتغالها على النطاق العالمى ضد مصالح الكادحين وتطلعاتهم عبر مراكمة الاكاذيب والشائعات.
اتهم الباحث الماركسيين بأنهم السبب فى تسلل التيارات الإسلامية اليمينية إلى المشهد السياسي، وهو اتهام ينفى ما جاء فى السطر الأول حين قال «إن اليسار الماركسى افتقد دينامية التحرك» فهل فتح الماركسيون الباب لليمين الدينى وهم ميتون. وعلى أى حال هذه مسألة تحتاج لنقاش عن فتح الباب لليمين الدينى . سوف اتوقف أمام قول الباحث إن رهانات الماركسيين كانت خاسرة . ولا أظن أن رهانهم كان خاسراً سواء على الطاقات الهائلة للطبقة العاملة والكادحين عامة أو على حركة التحرر الوطني، او سعيهم لاكتشاف الطرق المؤدية إلى الإشتراكية عبر تجاوز الرأسمالية، أو تنظيم الجماهير للدفاع عن مصالحها إذ انخرطوا منذ نشأتهم الأولى فى تأسيس النقابات والجمعيات والروابط حيثما وجدوا.
وقد دفعوا على امتداد تاريخهم أثمانا باهظة كما لاحقهم الحكم الناصرى ورغم ما كان لمنظمتهم الرئيسية الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى «حدتو» من موقف ناصع خالفت فيه بقية الحركة الشيوعية العالمية حين دعمت ثورة يوليو 1952 التى اعتبرتها الحركة الشيوعية العالمية حركة فاشية وبينما قال الشيوعيون إن ضباط يوليو هم جزء من الحركة الوطنية المصرية وسار الشيوعيون على هذا النهج رغم كل ما لحق بهم من أذى وساندوا التوجهات التقدمية لنظام يوليو بينما وصلت ملاحقة النظام الناصرى لهم إلى حد قتل بعض قادتهم فى السجون تحت التعذيب، فضلا عن أنهم شأنهم شأن كل القوى السياسية الأخرى عانوا طويلا فى ظل حكم ناصر و«السادات» و«مبارك» وطأة القيود الثقيلة على الحريات العامة.
ساوى الباحث بين الهيمنة الامريكية وما سماه الاستقطاب السوفيتى متجاهلا الدور الأساسى الذى لعبه الاتحاد السوفيتى فى دعم حركة التحرر الوطنى العالمية والعربية على نحو خاص حين شكل ملاذا لها من هيمنة الاستعمار الامريكى.. ولا ينسى المصريون هذا الدور حين وقف السوفيت بقوة مع قيادة عبد الناصر لدى تأميم قناة السويس عام 1956، والدور المحور الذى لعبوه فى لجم العدوان الثلاثى على مصر، وحين قررت مصر تنويع مصادر السلاح بعد أن رفض الغرب الاستعمارى تسليحها، قدم لها المعسكر الاشتراكى هذا السلاح، ثم مول الاتحاد السوفيتى بناء السد العالى بعد أن رفض البنك الدولى تمويله، وأسهم بنصيب وافر، منطلقا من موقفه الأممى النزيه فى ملحمة تصنيع مصر فى ظل الناصرية. وما تزال القلاع الصناعية الرئيسية فى بلادنا شاهدة على هذا العون. وتأكيدا لنظرة الباحث الوضعية التى تساوى بين اللامتساوى ينتقد ما سماه تهليل الماركسيين للصعود القوى الذى عرفه اليسار الأوروبى بعد الحرب العالمية الثانية، وفى الوقت نفسه ـ يقول الباحث ـ يرفض التماهى أى اليسار مع المشروع الناصرى الذى واجه الغرب الكولونيالى والحركة الصهيونية وساند حركات التحرر شرقاً وغرباً.
ساند الماركسيون ـ حتى وهم فى السجون وتحت التعذيب ـ التوجهات التقدمية للناصرية ولكنهم رفضوا التماهى مع الناصرية كما يطالبهم الباحث، فليس مطلوبا من القوى السياسية أن تتماهى أو بمعنى أصح تندمج مع الحكم حتى لو كانت تؤيده، فضلا عن أنه كان هناك خلاف جوهرى بين الماركسيين والناصرية وللمفارقة كان هذا الخلاف حول الديمقراطية والحق فى التنظيم، بل إن بعضهم جرب «الاندماج» فى الحزب الواحد عبر الانخراط فى التنظيم الطليعى الذى شكله جمال عبد الناصر بعد أن كان ناصر قد اكتشف فشل الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي) الذى تكالب عليه الانتهازيون والمنافقون وطلاب السلطة ،يقدم الباحث نموذجين للماركسى أحدهما «الإشكالى» الواقع فى التيه الايديولوجى والمعزول عن الجماهير والذى لم يحل مشكلة الماركسية مع الدين ورفض التماهى مع الناصرية وارتبط بموسكو إلى آخر قاموس الصفات المرذولة ، وأخطرها على الإطلاق أنهم يسقطون الفكر على الواقع الذى لا يعرفونه ، وواضح أنه لا يعرف أن الماركسيين كانوا عبر تاريخهم منخرطين لشوشتهم فى الواقع واتوقف هنا فقط أمام قوله إن كل هذه الصفات المرذولة ويخص منها انكفاء «الإشكالى» على صومعته بعيداً عن أرض الواقع حتى تخلى عنه الجميع، ومنهم أولئك المهمشون الذين تمركز حولهم مشروعه بعدما أصبح عبئا عليهم.
وعلى ما يبدو أن الباحث ليس مطلعا بما يكفى على الأدبيات الأساسية للماركسية التى طالما راهنت على الطاقة الكامنة للطبقة العاملة وعلى تنظيمها ووعيها ولم تراهن قط على المهمشين، أو تمركز مشروعها حولهم، وواضح أيضا أنه لا يعرف أن غالبية الأحزاب الشيوعية فى العالم وفى العالم العربى خاصة أسقطت مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا. أما النموذج الثانى فهو ما سماه «البدائلي» ودون ان يقدم لهذا البدائلى تعريفا أو حتى وصفاً باستثناء أن الماركسى «الإشكالي» يصفه بخيانة المبادئ الماركسية ولكننا لا نعرف بالضبط ما هو مشروع هذا البدائلى .
سوف أتوقف أيضا أمام قوله «إن الماركسيين لم يبذلوا جهداً فى إبراز عدم عدائهم للدين» وواضح مرة أخرى أن الباحث لم يتابع الجهود الفكرية الهائلة والعميقة التى بذلها مثقفون ماركسيون على امتداد الوطن العربى فى هذا السياق ، وأستطيع أن أقول إنهم ابتدعوا مبكرا فكرة تجديد الفكر الدينى وعلى المستوى الواقعى قدم المحامى الماركسى الراحل «نبيل الهلالى» مرافعات كثيرة أمام المحاكم التى قدم لها الماركسيون وتحدى أيا من كان ليظهر له وثيقة واحدة يهاجم فيها ماركسيون الدين، ولطالما حرص الماركسيون على التفرقة بين الدين والفكر الدينى، ودعوا إلى القراءة العلمية الموضوعية للنصوص، ولعل الباحث يعرف جيداً كيف استخدمت ماكينة الدعاية الرأسمالية تعبير ماركس إن الدين «أفيون الشعوب» منتزعة هذا التعبير من سياقه. ويؤكد الباحث مراراً ما سماه عزلة الماركسيين، ويشهد الواقع على زيف هذه الفكرة ، فالماركسيون موجودون رغم الملاحقة والقمع ورغم الدعاية السوداء على نحو خاص، وسوف اتوقف أمام إسهامهم مع ممثلين تقدميين للقوميين واليسار الدينى فى تأسيس حزب التجمع الذى أصبح ـ رغم كل شىء ـ رقما رئيسيا فى المعادلة السياسية فى مصر الآن . وعالميا تجدد الماركسية نفسها على المستويات كافة وهى تعتنى بكل ما أنتجته البشرية من أفكار وأدوات تماما كما طالب مؤسسوها. وختاماً لاشك أن الماركسيين فى أزمة وهى جزء من أزمة كل القوى السياسية فى مصر.