فذهبت. كان موعدى هو العاشرة صباحاً. وكان الضيف الذى سيأتى بعدى من الحادية عشرة هو طلال أبو غزالة. رجل أعمال فلسطينى من الذين يحملون الهم الفلسطينى فى حبة القلب. وعندما دخل المكتب متأخراً أكثر من نصف ساعة رأيت طريقة اعتذاره التى تؤكد مكان ومكانة الأستاذ فى قلبه وقلوبنا جميعاً.
المجالس أمانات. هكذا تعلمت فى قريتى التى ما زالت خضراء فى حبة القلب. وأرويها بماء العين كل صباح وكل مساء. لكن ما قاله لى الأستاذ فى الساعة ونصف الساعة أنه مسافر غداً إلى الغردقة لمدة أيام. ثم سيعود بعدها للقاهرة ليوم واحد وينطلق فى رحلته السنوية إلى أوروبا: لندن وباريس. ثم سيردينيا وجنوب إيطاليا فى شمال البحر الأبيض المتوسط. ويعود فى أواخر يوليو أو أوائل أغسطس.
كانت لدى الأستاذ مواعيد ولقاءات سيجريها فى عواصم أوروبية. مع ساسة وصحفيين ومثقفين ومهتمين بالشأن العام. وضع جدولا بدقة وعناية. ومكتبات يريد أن يزورها ليقتنى الكتب الجديدة التى تضيف إلى معرفته التى ربما لا تحتاج إضافات كثيرة. فقد كان على مكتبه خلال اللقاء كتاب لكارين أرمسترونج عن تاريخ الأديان. وهو كتاب صادر فى أوروبا الأسبوع الماضي. واستحضره الأستاذ عن طريق الطرق الحديثة فى شراء الكتب بالبريد الإليكتروني. وكتاب آخر يقدم رؤية لمفكر أوروبى للإسلام السياسى فى مسيره ومصيره. ولأن الأستاذ لا يقتنى الكتب لكى تزين أرفف مكتباته الكثيرة. فقد كانت هناك علامات على صفحات الكتب وأوراق تحدد المناطق التى وصل إليها. وقد عرفت منه أن الكتابين لهما أهمية غير عادية بالنسبة لنا الآن ولمأزقنا الراهن. ولأن الأستاذ هيكل تجربة فريدة فى شئون الحياة. فقد رأيته يشرف بنفسه على تفاصيل الرحلة إلى الغردقة. الذين سافروا قبله بيومين لإعداد المكان. والذين استقلوا السيارات لينتظروه فى مطار الغردقة. لأنه يسافر إلى هناك بالطائرة. وكل ما يحتاجه هو وزوجته السيدة هدايت تيمور خلال وجودهما هناك.
سافر فعلاً الأستاذ هيكل يوم الثلاثاء إلى الغردقة. فى اليوم التالى مباشرة علمت وقت الظهر بطريقة أقرب للصدف التى لا نجدها سوى فى الروايات الرائجة التى توزع ملايين النسخ. عرفت أن الأستاذ هيكل قد انزلق أثناء مشيه فى الغردقة. وأنه ربما نتج عن انزلاقه كسر فى الفخذ. وليس الحوض كما روَّج الذين ودعوا القيم والتقاليد والأديان.
من حسن حظ هيكل وجود الدكتور على هيكل فى حياته. إنه نجله البكر. لكنه يتعهد الوالد صحياً فى كل شئ. وقد سافر على هيكل إلى الغردقة فوراً. لم ينتظر لحظة واحدة. وفى الغردقة حاولوا عمل أشعة على موضع الكسر. فاكتشفوا أن الأمور خارج القاهرة مهما كانت المدينة التى تجرى فيها مختلفة تماماً عن القاهرة. فالقاهرة مدينة تلخص وطناً بأكمله. وكان الناس فى قريتى عندما يسافرون إليها يقولون إنهم مسافرون لمصر.
عاد الأستاذ هيكل إلى القاهرة مساء الأربعاء ومكث فى مستشفى صغير بمصر الجديدة ليكون فى أقرب مكان لمطار القاهرة الدولي. لأن الدكتور على كان قد اتخذ قراراً بسفر الوالد خارج البلاد للعلاج من الكسر المفاجئ. تصورت أن السفر سيكون إلى ألمانيا. فمعلوماتى فى الطب وهى معلومات قائمة على السماع وليست متخصصة. وقد لا تكون دقيقة تقول لى إن علاجات العظام مكانها الطبيعى ألمانيا.
لكن القرار كان بالسفر إلى لندن. أما عن أسباب اختيار بريطانيا وليس ألمانيا فعلم هذا عند ربى وعند الدكتور علي. يوم الخميس الماضى كان الأستاذ هيكل فى لندن. وقد تعجبت من الأقدار. فالرجل كان مسافراً فى كل الأحوال بعلاج أو بدونه بعد أيام من سفره الاضطرارى الذى قام به بعد الحادث الذى تعرض له.
فى لندن أغلق الأستاذ هاتفه المحمول. لم يعد يرد. وكنت قد اتصلت به أثناء وجوده فى الغردقة بمجرد أن علمت بما جرى له. ورد عليَّ بشكل محدد وسريع. كلماتٌ كالطلقات. قال لى بصوت واهن: يوسف أنا كويس. ثم أغلق الخط. وفى لندن أصبحت متابعة أخباره مشكلة. ولم يعد لديَّ سوى السيدة جيهان عطية التى تبخل بالكلام الذى يرضى الخيال ويشبع الفضول. وتختصر ما تريد أن تقوله فى أقل الكلمات.
أما الدكتور أحمد هيكل، الموجود فى لندن حالياً. فيبدو فى اتصاله مطمئناً هادئاً. أتخيله مبتسماً كعاداته. يتمنى ونتمنى معه جميعاً نجاح الجراحة التى تمت له فى لندن. وأتصور أن التفاؤل والتركيز على الأمور التى تحمل أكبر قدر من الأمل مطلوب فى الحالة التى نحن بصددها. لا أتعامل مع الواقع الافتراضى ولا مع النت. لكن صديقنا خالد عبد الهادي، المثقف الفلسطينى الذى يعيش فى الأردن متابع لدرجة الإدمان للإنترنت. وكان على اتصال يومى بى ليطمئن على أخبار الأستاذ. وأعرف منه ما يجرى فى هذا الفضاء المجهول بالنسبة لنا.
لا أستطيع وصف ذهولى عندما راح خالد عبد الهادى يستعرض ما كتبته ميليشيات المتطرفين لا أحب أن أسميهم حتى لا ألوث قلمى من شماتة فى مرض الأستاذ. ومن سعادة بالحادث. ومن تمنى أمنيات ليست سعيدة بالنسبة له. وعلى الرغم من أنهم صدَّعوا الدنيا والآخرة باعتبارهم مسلمين. فلا أعتقد أبداً أن الإسلام يقر الشماتة فى المريض. بل إن الإسلام يدعو أساساً للتعاطف مع المريض والدعاء له. وتقديم المساعدة إن كان ممكناً تقديمها. لكنهم هكذا يصرون على أن يخسروا كل شيء. حتى التعامل مع مريض.