رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

نمو بلا تنمية

لا يمكن أن ينكر أحد أن مستوى المعيشة فى مصر الآن، أغلى بكثير جدا مما كان منذ مائتى عام. نحن نشكو بحق من فشلنا فى تحقيق التنمية المنشودة،

ولكن هذا لا يتعارض مع الاعتراف بأن مستوى المعيشة (حتى لدى أفقر الشرائح الاجتماعية فى مصر) يفوق بكثير ما كان عليه منذ قرنين، إنى أتكلم عن متوسط الدخل الحقيقى للفرد الواحد، وليس عن الدخل الاجمالى، مما يجعل التقدم الذى أحرزناه أكبر مما لو كنا نتكلم عن إجمالى الدخل، إذ أن هذه الزيارة فى متوسط الدخل اقترنت بتضاعف حكم السكان خلال هذين القرنين أكثر من عشرين مرة.

لقد قمت مرة بمحاولة تقدير حجم الزيادة فى متوسط الدخل الحقيقى فى مصر (الحقيقى بمعنى زيادة ما يحصل عليه المرء من سلع وخدمات وليس مجرد ما يحصل عليه من نقود) خلال القرنين التاليين لمجىء الحملة الفرنسية إلى مصر، فوصلت إلى تقدير تقريبى مؤداه أنه قد تضاعف خلال هذين القرنين نحو ثمانى مرات.. وهو ما يتفق مع ما تعرفه عما أصبح عليه نمط الحياة الآن بالمقارنة بما كان عليه فى أواخر القرن الثامن عشر.

لقد وجد الفرنسيون، عندما جاءوا إلى مصر فى 1798 أنه من بين كل ثلاثة من المصريين كان هناك شخص بعين واحدة، وأن هناك شخصا فاقدا للبصر فقدا كاملا من بين كل عشرة من المصريين.

لاشك إذن أننا قد أحرزنا تقدما عظيما خلال القرنين الماضيين، رغم كل شىء: الاستعمار والحروب والأوبئة والدكتاتورية.. الخ ولكنه كان تقدما كبيرا من حيث النمو، وليس من حيث التنمية. وقد حاولت فى مقالى السابق بهذه الجريدة (27/4) أن أبين الفرق بين الاثنين. الأول ينطوى على زيادة الدخل، ولكن الثانى ينطوى على زيادة القدرة الانتاجية. وقد نجحنا فى الأول (كما كان لابد أن يحدث) ولكننا فشلنا للأسف فى الثانى، فبقينا دولة «متخلفة» بالمقارنة ببلاد أخرى، بما فى ذلك بلاد لم تكن أفضل حالا منا منذ خمسين أو ستين عاما، فكيف نفسر هذا الفشل؟

من استعراض تطور الاقتصاد المصرى خلال القرنين الماضيين يمكن أن نقرر باطمئنان أن مصر، رغم استمرار نمو الدخل تقريبا بلا توقف، بين فترة وأخرى، لم تمر بتجارب فى التنمية الاقتصادية إلا فى أربع فترات، وكان مصيرها كلها التوقف أو الإجهاض، إما بسبب تدخل سافر صريح من قوى أجنبية (كإجهاض تجربة محمد على فى 1840، وإجهاض تجربة عبدالناصر فى 1967) أو لأنها قامت فى ظل الاحتلال الأجنبى فلم يقدر لها التحول إلى تنمية شاملة (لقيام الإنجليز بالتوسع الزراعى خلال الثلاثين عاما التالية لبدء الاحتلال، وقيام طلعت حرب بمشروعات التنمية الصناعية فى الثلاثينيات والقرن الماضى) لقد شهدت مصر فترتين أخريين من الرخاء النسبى خلال عهدى الخديوى إسماعيل وأنور السادات، ولكن نمو الدخل فى الحالين لم يقترنا بتنمية القدرة الانتاجية على أى نحو ملموس، بل اقترن بزيادة الاستهلاك البذخى والمظهرى، الممول بقروض من الخارج باهظة التكاليف، فترك كل منهما مصر وأحوالها الاقتصادية أسوأ مما كانت عليه عندما تسلم الحكم.

ليست هناك إذن مبالغة فى القول بأن مصر لم تمارس التنمية الاقتصادية على أى نحو جدى منذ 1967، أى طوال ما يقرب من خمسين عاما. نعم شهدت مصر فى السبع سنوات السابقة مباشرة على ثورة 2011 (حكومة أحمد نظيف: 2004 ـ 2011) ما جعل الحكومة تفاخر بتضاعف الاستثمارات الأجنبية، ولكن معظم هذه الاستثمارات ذهبت إما إلى شراء أصول موجودة بالفعل، أو إلى قطاعات كالبترول ضعيفة الأثر فى زيادة القدرة الانتاجية، ومن ثم تفاقمت خلال هذه الفترة مشكلة. البطالة وازداد توزيع الدخل سوءا.

مما يمكن استفادته من استعراض تجاربنا الاقتصادية السابقة أنه فى كل فترة من فترات التنمية (أي التى زادت فيها القدرة الانتاجية زيادة ملحوظة) كانت القرارات الاقتصادية مصحوبة دائما بخطة تنبع من رؤية واضحة لما هو مطلوب كانت هناك خطة ورؤية حتى فى التجارب التى تمت فى ظل الاحتلال الأجنبى.

فمحمد على، حتى قبل أن يستخدم أحد كلمة التخطيط، كانت لديه خطة ورؤية واضحة لما يريد الوصول اليه من تنمية الاقتصاد، وكذلك كان عبدالناصر، وكذلك كانت جهود طلعت حرب فى التصنيع، وكذلك كانت جهود الإنجليز فى التنمية الزراعية فى مصر.

لا يهمنى الآن الهدف النهائى من هذه الخطط، هل كان هدفا يتعلق بالمجد الشخصى، كما كان الحال فى حالة محمد على، أم كان هدفا عاما لصالح الاستقلال الوطنى، كما كان فى حالتى طلعت حرب وعبدالناصر، أو لمصلحة بريطانيا، بتزويد مصانعها بالقطن المصرى. الذى يهمنى الآن هو ضرورة وجود خطة أو رؤية، ولعل هذا هو أهم ما نفتقده الآن فى سياستنا الاقتصادية.

قد يكون مما يثبط همة البعض ما يرونه من كثرة مشاكلنا الاقتصادية وتعقدها، بل وارتباط مشكلاتنا الاقتصادية بمشكلاتها السياسية والاجتماعية. فمن أين يمكن أن نبدأ؟ ولكن هذا بالضبط ما يجعل وضع خطة خطوة ضرورية فكثرة المشاكل وتعقدها وتشابكها يفرض علينا أن نواجه المشاكل كلها فى نفس الوقت فى حل المشكلات الأخرى، سرعان ما يعيدنا إلى نفس المكان الذى بدأنا منه، دون أن نظفر بشىء. وقديما عندما بدأ الاهتمام بمشكلات التنمية فى البلاد المسماة وقتئذ «بالمتخلفة» شاعت لفترة ما نظرية سميت بنظرية الدفعة القوية، وتقول إن التنمية أشبه بمحاولة رفع عربة إلى أعلى تل أو جبل، لا يكفى لتحقيقها عدد من الدفعات الضعيفة، بل يحتاج إلى دفعة واحدة قوية، إذ أن الدفعات الضعيفة، مهما كان عددها، قد تنتهى إلى الانحدار من جديد إلى نفس نقطة البداية.

فمشكلات انخفاض الانتاجية وانخفاض مستويات الادخار والاستثمار، مثلا متشابكة مع طبيعة المناخ السياسى والنفسى السائد، وهذا المناخ يرتبط بشيوع الفساد، ونمط سيىء لتوزيع الدخل. فلا يمكن مثلا إن تطالب الناس بزيادة الانتاجية، وبعدم التهرب من الضريبة، وبزيادة استثماراتهم، فى ظل شيوع الفساد، ووجود نمط بالغ الظلم فى توزيع الدخل.

إذا لم تعمل فى نفس الوقت على إعادة توزيع الدخل لمصلحة الفقراء، وتخفيض، الإنفاق الحكومى المبدد بسبب الفساد الخ.

كذلك يرتبط إصلاح التعليم بإصلاح المناخ السياسى والنفسى ومن الخطأ الظن بأن تطوير أو تحسين المقررات الدراسية يمثل خطوة مهمة فى إصلاح التعليم، إذا لم تفعل اللازم لتغيير هذا المناخ، إذ ما جدوى مقررات صالحة إذا قام بتدريسها مدرس محبط، أو مدرسة تعانى من مختلف المشكلات النفسية التى تدفعها مثلا إلى قص شعر طفلة صغيرة لأنها لم تقم بارتداء الحجاب؟ واصلاح التعليم مرتبط أيضا باصلاح الإعلام، إذن ما الذى يمكن أن تجنيه من تعليم جيد لتلاميذ يتعرضون بعد عودتهم من المدرسة لبضع ساعات من برامج تليفزيونية مختلفة؟

الأمثلة التى يمكن إعطاؤها لتشابك المشكلات الاقتصادية وارتباطها بغيرها ليس من السهل حصرها وهذا التشابك والارتباط يحتم وجود خطة يشترك فى وضعها أشخاص من مختلف التخصصات، ولكن يشتركون جميعا فى صفتين: النية الصادقة والإرادة الحرة. ولحسن الحظ أن مصر تمتلك عددا كبيرا من أصحاب النية الصادقة والرغبة الأكيدة فى العمل للصالح العام. فما أجدر بنا من أن نوكل اليهم هذه المهمة وأن نترك لهم اتخاذ القرارات بحرية؟

ولحسن الحظ أيضا أنك متى أشعرت الناس بأن هناك بداية حقيقية للاصلاح، سوف تظفر بتعاون مدهش من الجميع.


لمزيد من مقالات د‏.‏ جلال أمين

رابط دائم: