الفكرة الأولى تتصل بالتناقض الرئيسى الذى تعيشه مصر الآن والذى يعلو من فوق «التناقضات الثانوية» ويحدد طريقة التعامل معها؛ ويتشعب التناقض الرئيسى الى ثلاثة مكونات:
الحفاظ على «الدولة» من الانهيار المؤسسى تحت وطأة ممارسة العنف المسلح فى سيناء وفى سائر ربوع الوطن.
اكتساب العافية المجتمعية بعد إنهاك متصل وتآكل للتربة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية و الثقافية طوال حقبة «السادات مبارك»، على مدى أربعين عاماُ .
استعادة الانتعاش الاقتصادى من خلال رفع معدل النمو وبدء السير على معراج «التنمية».
ويتبدّى العجب من أن أحدا لم يذكر شيئاُ عن الجانب الأول المتمثل فى العنف المسلح المسلط بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة على امتداد الوجهين القبلى والبحري، والساحليْن الشمالى والشرقي، والصحراء الشرقية والغربية، والأحزمة الحدودية من كل الجهات. وربما يمكن القول إن تحدى العنف المسلح هو المتغير المهيمن فى اللحظة الراهنة على أولويات مواجهة التحديين الآخرين: العافية المجتمعية والانتعاش الاقتصادي.
الفكرة الثانية تتصل بالمفارقة بين وتيرة التغير السياسى و وتيرة التغير الاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى المجتمعات كافة. وبالتطبيق على فترة ما بعد ثورة 25 يناير2011 ، فإن النظام السياسى (المباركي) قد سقط مرتطماُ بالأرض يوم 11 فبراير 2011، بخلع الرأس آنذاك ومن قبله انهيار الجسد الأمنى ومن بعده انتهاء صلاحية » الأذناب«: الحزب الحاكم و الحكومة والمجموعة السياسية المتنفذة لرجال الأعمال. أما النظام الاقتصادى -الاجتماعى فلم يسقط ذلك اليوم، ولم يسقط بعد، ولسوف يبقى معنا زمنا آخر فى المدى المتوسط على الأقل (5- 7 سنوات ) مادامت أعمدته قائمة لم يمسسها شيء، وفى مقدمتها هيمنة القطاع الخاص الكبير على هيكل ملكية الثروة ورأس المال، وسيطرة «قوى السوق» من العرض والطلب على آلية إدارة الاقتصاد الكلي.
وفى ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نجد تفسيراً لما قد تحار فيه الألباب : تعنت كبار رجال المال والأعمال، والتساهل المفرط للجهاز الحاكم بإزاء الاستثمار الخاص المحلى و العربى و الأجنبي، وتباطؤ مسيرة العدالة التوزيعية.
الفكرة الثالثة، مرتبطة بسابقتها، أن فلسفة ما يسمونه» الاقتصاد الحر » هى المهيمنة على عملية صنع السياسة الاقتصادية سواء قبل أو بعد ثورة يناير، تلك السياسة المتبلورة فى (ترك الحبل على الغارب ) للقطاع الخاص الكبير وقوى السوق. وإنّا لنعلم أن ضعف الحال الاقتصادى المتواصل خلال السنوات الأربع المنصرمة، يقيد الى حد بعيد من حرية الحركة لصانع القرار الاقتصادي، ويضيق بصورة خطيرة من » هامش المناورة » أمامه، بحيث يكاد لايجد أمامه منفذاُ، على المدى القصير، سوى العمل وفق قواعد اللعبة المستقرة دولياُ ومحلياُ، وبخاصة العمل من خلال الشركات الدولية الكبرى والشريحة العليا من قطاع الأعمال الخاص المحلى والعربي. وفى ضوء ذلك تجرى محاولة تحسين » شروط العمل والتبادل« عبر اعتماد مجموعة من المشروعات العملاقة ( مثل تفريعة قناة السويس الجديدة، والمدينة الإدارية الجديدة، واستصلاح أو استزراع الأراضى ) يتوخى من خلالها كسر الحلقة المفرغة للركود، بزيادة حجم التشغيل وتوليد فرص كسب الدخول، أملاُ فى التعافى الاقتصادى على المدى القصير والمتوسط .
من هنا، يمكن لنا، على مضض، تفسير اللغز الكامن فى التسهيلات المفرطة الممنوحة للاستثمار الخاص، باعتبارها تمثل ربما- نوعا من » المغامرة » أو المخاطرة المحسوبة حين تقل الخيارات لدرجة موشكة بالخطر أمام واقع ضعف الحال الاقتصادى المزمن من سياسات ما قبل يناير وما بعدها ، بما فى ذلك ( فترة حكم الإخوان المسلمين).
ونأمل ان تأتى المخاطرة المحسوبة بثمار موجبة، بل ونتوقع ذلك بدرجة عالية، مما سوف يسمح فى المستقبل غير البعيد بإعادة توجيه مؤشر الحركة بعيداُ عن (الاقتصاد الحر) وقريباً من » الاقتصاد الموجّه » بل و »الاقتصاد المخطط« متعدد القطاعات : قطاع عام قطاع خاص كبير ومتوسط وصغير وأصغر- وقطاع تعاوني.
أما الفكرة الرابعة فتتعلق بقضية (الحريات). ومن الخطأ وضع هذه القضية فى موضع التناقض مع قضية ( حفظ الدولة من الانهيار واكتساب العافية المجتمعية والانتعاش الاقتصادي). فالحرية والديمقراطية شرط لازم للجميع؛ ولكن الأمر متصل بترتيب الأولويات عبر الزمن؛ فمن المفهوم أن يتقلص هامش »حرية الفرد« حين تكون »حرية الوطن » فى موضع الخطر الشديد، وإنما يجب ضبط هامش توسع الحريات بما يتفق مع ادراك الخطر، دون افتئات.
لذا توجهنا باللائمة الى من تصدّوا من الشباب الثائر، ومنذ اللحظة الأولي، لقانون (التظاهر) مثلاُ دون انتظار، ولم يكن هذا القانون فى الحقيقة من الأمر، وفى الأصل، موجهاُ إليهم و إنما الى غيرهم، كما يعلمون، ولكنهم وضعوا أنفسهم فى موضع لم يكن مراداً لهم، ولو صبروا عاماً أو نصف عام، لكان أفضل للجميع. وتشاء المقادير أن تتصاعد موجة العنف بل وتتكاثر موجاته، ولم يزل القانون قائماً دون تعديل، فإلى متى ؟ ونرجو أن يلتقى الجانبان عند نقطة وسط، بالتعديل ثم »الإفراج المشروط«، مع توافق على » فقه الأولويات«. بل نرجو أن تقوم الهيئة الجليلة لمجلس القضاء الأعلى بضبط خطى «الإصلاح القضائي» من الداخل، حيثما وجدت حاجة لذلك، وهى موجودة، وكذا الحال بالنسبة لهيئة الشرطة المدنية وضرورات إصلاحها من داخلها بالذات، وبواسطة رجالها المكرمين، كلما وجب الأمر.
الفكرة الخامسة أن حالنا الراهن متحصل من واقعنا التاريخي. رئيس الجمهورية المنتخب هو ما خلص إليه واقعنا السياسى بلا زيادة أو نقصان، وأوضاع (القوى السياسية) من التشرذم والضعف وانعدام الفاعلية محصلة لتطور تراكمى مزمن خلال أربعة عقود؛ و(افتقاد الرؤية) أمر يشترك فيه الجميع : تيار الإسلام السياسى بكل فصائله، والتيار الليبرالى بتلويناته الكثيرة ، واليسار القومى والاشتراكى بما فيه «الخط الوطنى التقدمي»؛ فما الغرابة ألا تكون لدى القيادة السياسية العليا رؤية تفصيلية منسجمة الخطوط ممتدة نحو المستقبل البعيد؟ وما الغرابة أن تأتى بعض اختياراتها للأشخاص مختلطة، بل ومرتبكة أحياناً، وألا تشكل جهازها المعاون حتى الآن. أفليس كل ذلك انعكاساً لواقعنا الذى نتشارك فيه جميعا بغير استثناء تقريباً ؟.
بعد هذه الأفكار الخمسة تجيء تساؤلات معلقة فوق رءوس الجميع نرجو لها إجابة منهم لا تجيء، وأبرزها: ماذا عن (الدولة والثورة) ؟ وماذا عن (الدولة والدين)؟ وماذا عن (ثنائية التنمية والعدل)؟.
ومن حول الإجابات المنتظرة و الأفكار موضع التوافق العام، يمكن أن ينشأ »الاصطفاف الوطني« المنشود.