لمّا جاء أحمد بن طولون حاكما لمصر سنة 254هـ، سكن مدينة العَسْكَرِ على عادة من سبقوه، ذلك أن ولاة مصر كانوا يقيمون في الفسطاط أولًا منذ اختطَها الفاتح عمرو بن العاص سنة 21هـ، وظل الولاة يقيمون فيها حتى سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ.
و لمَّا دخلتْ الجيوش العباسية مصر بقيادة صالح بن علي، وتولى أبو عَوْن عبد الملك بن يزيد الخُرَاسَانِيُّ فإنه أمر ببناء مدينة العسكر سنة 135هـ، وصار ولاة مصر من بعد أبي عَوْن إذا قَدِمُوا مصر ينزلون فيها، ثم لمَّا جاء أحمد بن طولون فإنه أمر ببناء مدينة القطائعِ سنة 256هـ، في المجال الذي يمتد ما بين قلعة الجبل حتى زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وسُميتْ بالقطائعِ؛ لأنها قُطِعَتْ إلى قطعٍ كان يسكنها عساكر ابن طولون، وعُرفتْ كلُ قَطيعة باسم مَنْ سكنها، فكانت للنوبة قطيعة، وللروم قطيعة، وللفَرَّاشين قطيعة، ولكل صِنْفٍ من الغِلمان قطيعة تُعرفُ بهم، والقطائع مثل حارات القاهرة الفاطمية بالضبط؛ حيث سُميتْ كل حارة باسم من سكنها.
أحد أروقة الجامع الطولونى والتى تعرف بالزيادات
ثم بُنِي هذا الجامع على قمة جبل يَشْكُر، في بُقْعَةٍ مشهورة بإجابة الدعاء، يُقال إنَّ الله تعالى كلَّم عليه نبيه موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، والجامع يقع في منطقة الصَّلِيْبَة بين مَيْدان الرُّمَيْلَة شمالًا وميدان السيدة زينبَ جنوبًا، وميدان الرُّميْلَة الآن لمن لا يعرفه هو المَيدان الواقع تحت قلعة الجبل، والمعروف بمَيدان القلعة، ذلك الميدان الواقع أمام جامع ومدرسة السلطان حسن.
أحد الأبواب والأسوار الخارجية للجامع الطولونى
وقد ابتُدئَ في بناء الجامعِ سنة 263هـ، وانتهى البناء سنة 265هـ، وقد اختُلِفَ في تاريخ الانتهاء من البناء، لكن ما يؤكد تاريخ الانتهاء من بنائه النصُّ التذكاريُّ المنقوش بالخط الكوفي في لَوْح من الرخام على أحد دِعَامَات الجامعِ تُجَاه القبلة، وفيه: "أمر الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين أدام الله له العز والكرامة والنَّعْمَة التامة في الآخرة والأولى، ببناء هذا المسجد المبارك الميمون من خالص ما أفاء الله عليه وطيَّبَه لجماعة المسلمين ابتغاء رضوان الله والدار الآخرة وإيثارًا لما فيه تَسْنِيَة الدين وأُلْفَة المؤمنين، ورغبة في عمارة بيوت الله وأداء فرضه وتلاوة كتابه ومُدَاوَمَة ذكره، في شهر رمضان من سنة خمس وستين ومائتين".
أحد الأروقة الداخلية للجامع الطولوني
والجامع الطولونيّ هو الجامع الوحيد في مصر الذي بَقِيَ على حاله فلم يتغير؛ خلافًا لما شَهِدَه جامع عمرو بن العاص والجامعِ الأزهر الشريف من تغيير، ويعد كذلك الأثر الوحيد الذي بَقِيَ من مدينة القطائع، التي تمَّ إحراقها من قبل العباسيين بعد سقوط الدولة الطولونية سنة 292هـ، وعودة مصر ولاية عباسية بعدما شَهِدَتْ استقلالًا ذاتيًا في العصر الطولوني.
الباب الخارجي للجامع الطولونى
ومدينة القطائعِ نفسها خُرِّبتْ تمامًا أيام الشدة المستنصريةِ في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي، والتي استمرتْ مدة سبع سنين من سنة 457هـ حتى سنة 464هـ، ومع ذلك، بَقي الجامع الطولونيّ شامخًا؛ ذلك أنَّه أُثِرَ عن ابن طولون أنه قال: "أريد أنْ أبني بناءً إنْ احترقتْ مصرُ بقي، وإنْ غَرِقَتْ بقي، فقيل له: "يُبنى بالجير والرَّماد والآجُر الأحمر".
أما عن تكوين الجامع؛ فإنَّ الجامع الطولونيّ يتكون من صَحْنٍ مكشوف مربع، يتوسطه قبة، تحيط به أربعة أروقة من جوانبه الأربعة، ويضم كلّ رواق رواقين آخرين، في حين أن رواق القبلة هو الوحيد الذي يضم خمسة أروقة داخلية، كما يتكون الجامع من ثلاثة أروقة أخرى تقع خارج الجامعِ تحيط بجوانبه الثلاثة والتي تُعرف بالزيادات.
الباب الداخلى للجامع الطولونى
وللجامعِ ستة محاريب، خمسة منها غير مجوفةٍ، أما المحراب الأصليّ فإنه منحرفٌ عن القبلة ذلك أنَّه يميل جنوبًا عن محراب الصحابة الموجود في جامع عمرو بن العاص؛ حيث يقول المقريزيّ في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخِططِ والآثار: "وأنت إنْ صَعِدَتَ إلى سطح جامع ابن طولون، رأيت مِحْرَابَه مائلًا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلى الجنوب، وقد عُقِدَ مجلس بجامع ابن طولون في ولاية قاضي القضاة عزّ الدين عبدالعزيز بن جَماعَة، حضره علماء الميقات، ونظروا في محرابه، فأجمعوا على أنَّه منحرفٌ عن خطّ سَمْت القبلة إلى جهة الجنوب، مُغَرِّبًا بِقَدْرِ أربع عشرة درجة، وكُتِبَ بذلك محضرٌ، وأُثْبِتَ على ابن جَماعَة.
أما باقي المحاريب، فإنها بُنيتْ بعد ذلك في عصور تالية للعصر الطولوني، أبرزها: محراب الخليفة الفاطميّ المستنصر، ويتبين من النقوش الكتابية أن الذي أمرَّ بإنشائه هو فتى المستنصر الأفضل بن بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ سنة 487هـ، ومحراب السلطان حسام الدين لاجين الذي أنشأه سنة 696هـ؛ لورود اسمه وألقابه في نقش على المحراب.
حوض وفوارة الجامع التي تعلوها القبة
أما عن القبة التي تتوسط الصَّحن، فكان تحتها حوضٌ من الرخام في وسطها نافورة ماء، استُعملت للوضوء فيما بعد، وهذه القبة احترقت سنة 376هـ ولم يبقَ منها شيء، وفي سنة 385هـ أمر الخليفة الفاطميّ العزيز بالله ببناء قبة أخرى عِوضًا عن التي احترقتْ، لكنَّ النقوش الكتابية الموجودة داخل القبة تثبتُ أنَّه تمَّ بناؤها مرة ثالثة في عهد السلطان حسام الدين لاجين في العصر المملوكي سنة 696هـ، وبذلك نتبين أنَّ الجامع الطولونيّ كان موضع اهتمام الفاطميين والمماليك.
سطح الجامع الطولوني
ولمَّا كان أحمد بن طولون متأثرًا بالعمارة في سَامُرَّاء التي نشأ فيها؛ فإنَّه بناه على بناء جامع سامُرَّاء، وكذلك المنارة الملوية التي تكاد تكون الوحيدة الموجودة في مصر والتي بُنيتْ على شكل وتصميم منارة جامع سَامُرَّاء، وكذلك فإنَّ الزيادات الخارجة عن الجامع موجودة أيضًا في جامع سَامُرَّاء، وهذه الزيادات تشبه الطريق الدائر الذي يحيط بجامعِ عمرو بن العاص من جميعِ الجهات، كما يحيط بجدران الجامعِ الطولونيّ أسوار، وبهذه الأسوار أبواب، كلُّ باب يقابل بابًا من أبواب الجامع، قُدِرَتْ بثلاثة وثلاثين بابًا، لكن هذه الأبواب الملحقة بالأسوار أُغلقت تمامًا من الخارج وسُدَّتْ، وقد رأى هذه الأسوار والأبواب ناصر خسرو في رحلته؛ حيث ذكر أنه لم ير ما يفوقها في حسنها وجمالها في غير آمِدَ ومَيَّافَارِقِينَ.
صحن الجامع الطولوني وتظهر فيه المئذنة والقبة
والجامع بُني على مساحة كبيرة تُقدر بستة أَفْدِنَة ونصف فَدَّان، لذلك يعدُّ الجامع الطولونيّ من أكبر جوامع القاهرة؛ ويبدو أنَّ مساحة الجامع الشاسعة كانت من أحد الأسباب التي حالتْ دون إقامة الصلوات فيه منذ عصور تاريخية متأخرة حتى وقتنا.
وفي عهد صلاح الدين الأيوبيّ تحول الجامع إلى مأوىً ينزل فيه الغرباء من المغاربة أيام الحج؛ حيث نجد ابن جبير في رحلته يسجل لنا هذا الأمر أثناء حديثِه عن جامعِ ابن طولون؛ قائلًا: "وهو من الجوامعِ العتيقة، الأنيقة الصنعة، الوثيقة البُنْيَان، جعله السلطان مأوىً للغرباء من المغاربة، يسكنونه ويعقدون حَلْقَاتِ العلم فيه، وأجرى عليهم الأرزاق في كلّ شهر". وفي سنة 662هـ، في عهدِ الظاهرِ بيبرس تحول الجامع إلى مخزن لحفظ الغلال وخبزها، وأمر السلطان الظاهر بيبرس أَن يفرق من الشِّون السُّلْطَانِيَّة على أَرْبَابِ الزوايا في كلّ يوم مائة أردب بعد ما يُعْملُ خبْزًا بجامع ابن طولون، ذكر ذلك المقريزيُّ في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك، وفي عهد محمد بك أبي الدهب تحول الجامع إلى ورشة لعمل الأحزمة الصوف، ثم تحول إلى ملجأ للعجزة والمُسنين، على يد كلُوت بك، Clot، مما يبينُ كثرة التعديات التي شَهِدَها هذا الأثر الإسلاميّ العتيق.
من الأبواب الداخلية للجامع الطولونى منبر ومحراب الجامع الطولونى مئذنة الجامع الطولوني نص تذكاري بالخط الكوفي فيه تاريخ الانتهاء من بناء الجامع الطولوني في شهر رمضان من سنة خمس وستين ومائ صندرة المسجد الطولوني
ناهد قرنى عبد الحميد
باحثة دكتوراه فى التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة