رمضان.. شهر الخير والسرور، شهر الرحمات والنور، شهر الإفطار والسحور، وقد ورد فى شأن السحور عدة أحاديث نبوية شريفة منها، قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"تسحروا فإن فى السحور بركة"، و قوله:"لاتزال أمتى بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور".
وقد جرت السنة أن يتسحر الصائم تقويا على الصيام؛ لأن الله - عز وجل - لا يريد من الصوم تعذيب النفس، ولا تحطيم الجسم، بقدر ما يريد تصفيتها من الذنوب، وتهذيبها من الآثام.
وقد ذكر العلامة على الجندى فى موسوعته "قرة العين فى رمضان والعيدين" أن السحور سُمي سحورا؛ لأنه مشتق من السحر، والسحر ما بين الفجر الصادق والكاذب؛ لأن له وجها إلى النهار، ووجها إلى الليل، فلا يُسمى سحورا إلا ما كان فى ذلك الوقت.
أذان بلال للسحور وأذان ابن أم مكتوم للإمساك
وعن ابن عمر - رضى الله عنه - قال :"كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - :" إن بلالا يؤذن بليل فكروا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم".
وهكذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم - يعرفون جواز الأكل والشرب بأذان بلال، ويعرفون المنع بأذان ابن أم مكتوم، وأذان بلال ثم ٱذان ابن مكتوم يشبه ما يحدث فى الحواضر اليوم بمدفع السحور ثم مدفع الإمساك.
ظهور المسحراتى
وبمرور الوقت وتوالى العصور، تفنن الناس فى وسائل السحور؛ لإيقاظ بعضهم بعضا، وظهر المسحراتي فى ربوع العالم الإسلامي، حتى إن بعضهم كان يوقظ الناس بالشعر، فظهر شعر القوما، وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان، الوزن الأول مركب من أربعة أقفال ، ثلاثة متوازية فى الوزن والقافية، والرابع أطول منها وزنا، وهو مهمل بغير قافي، والثانى من ثلاثة أقفال مختلفة الوزن، متفقة القافية،يكون القفل الأول منها أقصر من الثانى، والثانى أقصر من الثالث، وقد ابتكر هذا النوع من الشعر رجل بغدادي يسمى أبو نقطة لتسخير الخليفة العباسي الناصر لدين الله (577-623هـ).
ومن شعر السحور:
أيها النوام قوموا للفلاح.. واذكروا الله الذى أجرى الرياح
إن جيش الليل قد ولى وراح.. وتدانى عسكر الصبح ولاح
أشربوا عجلى فقد جاء الصباح
معشر الصوام يا بشراكم .. ربكم بالصوم قد هناكم
وجوار البيت قد أعطاكم.. فافعلوا أفعال أرباب الصلاح
أشربوا عجلى فقد ولى الصباح
وقد احتفلت مصر بالتسحير، حتى شارك فى ذلك بعض ولاتها، فقد ورد أن والى مصر فى العصر العباسي عنبسة بن إسحاق (٢٣٨هـ - ٨٥٢م) فكان يذهب من مدينة العسكر(عاصمة مصر فى العصر العباسي) إلى جامع عمرو بن العاص ماشيا، وكان ينادى على الناس فى طريقة بالسحور.
وكان المؤذنون بالجوامع يقومون بالتسحير، فينادوا فى الناس:كلوا واشربوا وما أشبه ذلك، على ما هو معلوم من أقوالهم ويقرأون الآية الكريمة التى فى سورة البقرة، وهى قوله تعالى( يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
أما التسحير فى غير الجوامع، فقد كان بالطبلة المعروفة لدينا الآن، يطوف بها المسحراتي على البيوت، ويضربون عليها لإيقاظهم، وأما أهل الإسكندرية، وأهل اليمن، وبعض أهل المغرب، فكانوا يسخرون بدق الأبواب على أصحاب البيوت، وينادون على أصحابها، وأما أهل الشام فإنهم يسخرون بدق الطار( نوع من الطبل أشبه بالرق) مع الغناء والرقص، وأما أهل المغرب، فإنهم يفعلون قريبا من أهل الشام، مع استخدام الأبواق.
وفيما يتصل بالمسحراتي فى القاهرة وربوع مصر المحروسة، فيتجول فى الدروب فى هزيع الليل ممسكا بيده طبلة صغيرة، يديها بقطعة من الجلد، أو مقرعة دقيقة، ليقف بكل باب ينادى على أصحاب الدار ليصيب بعض الخير مما رزقهم الله مترقبا منهم فى نهاية الشهر نفخة العيد.
ومن الطريف أن التسحير فى مصر لم يكن مقصورًا على الرجال بل شاركت فيه النساء، وقد وصف لنا إحداهن الفقيه الشاعر المؤرخ زين الدين بن الوردي (ت٧٤٩هـ):
عجبت في (رمضان) من مسحرة قالت: ولكنها في قولها ابتدعت
تسحروا يا عباد الله؟ قلت لها: كيف السحور؟ وهذى الشمس قد طلعت؟
واليوم ومع التوسع فى المدنية، والتقدم الهائل فى عالم الإعلام والاتصالات، باتت مهنة المسحراتى تواجه الاندثار، واقتصر ظهور المسحراتى فى بعض الأحياء الشعبية، وأصبحت نقرات المسحراتى على طبلته صدى لذكريات الماضى البعيد.