لا يمكن تجاهل أهمية تحديد النسل فى تنمية المجتمع والارتقاء به، فالأعداد الضخمة من السكان تؤثر بالسلب على معدلات التنمية وتلتهم ما يتحقق من نمو فى الدخل وتحسُّن فى الخدمات، فالأسرة التى تنجب أعدادا كبيرة لا توفر لأطفالها إلا القليل من الرعاية الصحية والتعليمية والنفسية، والمعادلة بسيطة للغاية، فعند توزيع الدخل والوقت على خمسة أطفال أو أكثر لا يمكن توفير الطعام الصحى والملبس الملائم والعلاج الناجع والتعليم الراقى والترفيه وتنمية المهارات.
فالظروف تغيرت كثيرا عن الماضي، فى ظل أن مصر كانت مجتمعا زراعيا، فكانت الأسرة الكبيرة مهمة حينئذ لأنها تحتاج إلى جهود الأبناء فى العمل بالأرض، وكان العمل يبدأ فى سن مبكرة عندما كانت الحقول تعتمد بالأساس على العمل اليدوى ، وكانت زراعة فدان واحد تحتاج إلى أعداد كبيرة من الأبناء إلى جانب الوالدين، فالحراثة وجمع الثمار وغيرهما من الأنشطة كانت صعبة وشاقة وتحتاج أيادى عاملة كثيرة، فكان التسرب من التعليم سمة واضحة فى الريف لأن الأسرة تحتاج إلى عمل الأطفال فى سن مبكرة، مما كان يحرم الكثيرين من فرص التعليم، أما بعد دخول الآلات الزراعية فى كل المراحل فلم تعد الزراعة تحتاج كل هذا العدد، فالرى والحرث ورش المبيدات والأسمدة وحتى الحصاد يتم بآلات أصبحت متوافرة فى كل قرية، مما قلل من الاحتياج إلى كل هذه الأعداد.
وعلى صعيد آخر كان متوسط الأعمار يقل كثيرا عنه الآن بسبب الجهل والفقر، ولأن وفيات الأطفال كانت كبيرة، فكان من الطبيعى والسائد أن تسعى كل سيدة لإنجاب عدد أكبر من الأطفال،لأن الأمصال غير متوافرة، والرعاية الصحية محدودة، فيموت الأطفال لإصابتهم بأمراض أصبحت تحت السيطرة، لكنها كانت تودى بحياة كثيرين، أما الآن فلم يعد الأمر كذلك بسبب التقدم العلمى وتوافر الرعاية الصحية فقلت نسبة الوفيات ولم يعد هناك حاجة للأسر لأن تضاعف من أعدادها.
أسمع أحيانا بعض الآراء الغريبة التى تشير إلى دول مثل الصين والهند وتقول إنها استفادت من الطاقة البشرية لديها، وأنها استثمرت فيها بشكل كبير أحدث نموا هائلا، ولا يدرى هؤلاء أن الصين والهند وبنجلاديش وكثيرا من الدول الكثيفة السكان طبقت أنظمة صارمة فى تحديد النسل، فالصين مثلا اتبعت سياسة الطفل الواحد منذ السبعينيات من القرن الماضي، وفرضت غرامات وعقوبات على كل أسرة تنجب أكثر من طفل واحد، مثل حرمان الطفل الثانى من خدمات التعليم والرعاية المجانية، وفى الهند وغيرها من بلدان وسط آسيا جرى تطبيق التعقيم القسري، وتسببت هذه الطرق القسرية والعنيفة فى وفيات أعداد كبيرة من النساء، ولو كانت هذه الدول تعتمد على سياسة الإفراط فى النسل لما كانت قد قيدت الإنجاب بمثل هذه الطرق الصارمة والعنيفة، فالموارد والاستثمارات محدودة، ولا تكفى تلك الأعداد الكبيرة من السكان، وأصبح العدد الكبير من البشر يمثل أكبر الأخطار التى تهدد الأرض ومواردها المحدودة.
وتؤكد جميع الدراسات المعنية بالأرض والتنوع البيولوجى أن العدد الكبير من البشر يمكن أن يؤدى إلى كوارث فى القريب العاجل، فموارد مثل المياه والمعادن والبترول والأسماك تنضب بسرعة بسب الإفراط فى استنزافها، والغابات تقل مساحاتها من أجل توفير الغذاء للأعداد المتزايدة من البشر مما يهدد كائنات كثيرة بالانقراض والفناء، أما نصيب الفرد من المياه فيقل بمعدلات خطيرة، فموارد المياه من الأنهار والآبار لا تزيد، لكن أعداد السكان تتضاعف، فلا تكفى مياه الرى والشرب الأعداد الهائلة من السكان فى كثير من البلدان، وهذه الحقائق لا يمكن إنكارها، بل إنها ستؤدى إلى خسائر كبيرة على مختلف الأصعدة.
##
إن مصر التى لم يكن عدد سكانها يتجاوز العشرين مليونا قبل بضعة عقود أصبح عدد سكانها الآن يتجاوز المائة مليون، يستنزفون الموارد من المياه، والزيادة فى الأراضى الزراعية لا تلاحق كل تلك الزيادة السكانية، والفائض من الغذاء تحول إلى عجز بسبب تلك الزيادة الهائلة، بالإضافة إلى الضغوط الكبيرة على الخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم وغيرهما، إلا أن جهود الدعوة إلى تحديد النسل كانت تصطدم بمعوقات كثيرة، منها إرث من المعتقدات غير العلمية، وشيوع مقولة أن الطفل يولد برزقه، وأن الأعداد الكبيرة من السكان تقوى الشعوب، وهذه أفكار ومعتقدات غير صحيحة ويؤكدها الواقع، فالبلدان قليلة السكان يتمتع سكانها بقسط أكبر من التعليم وتصبح دولتهم أقوى بفضل العلم والمهارات وليس كثرة العدد، فالأعداد الكبيرة مثل غثاء السيل، لا توفر قوة ولا مناعة، بل تصبح عبئا على الأسرة والدولة، وتقلل الإنفاق على الرعاية ومختلف الخدمات، فلا تتطور المهارات، وتكون النتيجة استمرار تفشى الفقر والبطالة.
إننا بحاجة إلى جهود كل الجهات والأفراد الأكثر وعيا وثقافة لحث باقى فئات المجتمع على ضرورة الحد من الإنجاب المفرط، والاكتفاء بطفلين للأسرة الواحدة، ومواجهة المعتقدات والأفكار البالية التى لم تعد تلائم واقعنا وعصرنا، الذى تطورت فيه الآلات والمعدات والصناعات التى تحتاج إلى استثمارات كبيرة وعمالة قليلة ولكن ماهرة وعلى قدر كبير من التعليم والتدريب، فلا يمكن العودة إلى الاعتماد الكبير على القوة العضلية، وإنما الاعتماد على المهارات والعلوم والتقنيات الحديثة، فالعامل الذى كان يستخدم عضلاته فى الحفر أو حمل الأثقال ونقلها تتوافر بدلا منه آلات قادرة على إنجاز عمل كان يقوم به العشرات من العمال الذين يعتمدون على المعدات اليدوية أو العضلات، لكن تلك المعدات والتقنيات الحديثة تحتاج إلى مستوى متطور جدا من التعليم، ويكفى أن نلقى نظرة على مصنع لإنتاج السيارات مثلا، لنجد أن الآلات الحديثة تقوم بمعظم العمل بشكل دقيق وسريع، ولا تعتمد إلا على أعداد قليلة من المهندسين والفنيين، وكذلك فى صناعة البناء وغيرها من الصناعات والزراعة الحديثة، أما الدول الفقيرة التى تفتقر إلى الاستثمارات فإنتاجية العامل أو المزارع فيها تقل كثيرا عن البلدان الغنية.
إن تحديد النسل ينبغى أن يكون أحد ركائز النهوض والتقدم والرفاهية والحفاظ على الثروات الطبيعية وعدم استنزاف الموارد، ولهذا فعلينا القيام بعملية توعية شاملة ومتكاملة، وتوفير المعلومات الضرورية ووسائل منع الحمل المناسبة، وتعريف المرأة بكيفية تجنب الحمل غير المرغوب فيه، وأن يشارك رجال الدين مع التعليم فى تلك التوعية إلى جانب وسائل الإعلام، ومشاركة كل من يدركون أهمية التقدم الاقتصادى والقضاء على الفقر والجهل، وارتباط الزيادة الكبيرة فى السكان بانخفاض العائد من التنمية، وقلة الدخل ومحدودية الخدمات والموارد، وأن خفض أعداد المواليد سيوفر خدمات أفضل ويحسن فى مستوى المعيشة، وبالتالى تصبح الدولة أغنى وأقوى، وعلى وزارة الصحة أن توفر مراكز كافية لرعاية المرأة، ونشر الوعى الصحى والإنجابى إلى جانب توفير وسائل الحد من الإنجاب، أما دور رجال الدين فمهم وأساسى لمواجهة بعض الأفكار الخاطئة والشائعة، والتأكيد على أن قوة المجتمع ليست بكثرة العدد، وأن الزمن قد تغير وتطورت مفاهيم القوة التى لا تعتمد على الزيادة السكانية وإنما القوة والمناعة فى المعرفة والعلم والمهارة والرعاية، أما الإعلام فعليه تطوير رسالته الإعلامية لتكون مناسبة، وتشرح الآثار المدمرة للزيادة السكانية ومخاطرها، وأن تصل إلى كل المستهدفين، وتنويع الرسالة الإعلامية لتناسب كل الفئات، وتفنيد الأفكار السلبية التى تعرقل نجاح حملات الحد من النسل، وتوضح مضار الإفراط فى الإنجاب على الإنسان والموارد الطبيعية وحتى مستقبل البشر والمخاطر على الحياة الطبيعية وموارد الأرض المحدودة ومستقبل الأجيال القادمة.
إن القيادة المصرية تتجنب أى وسائل قسرية للحد من النسل، وتعتمد فقط على مدى وعى وإدراك أهمية تلك الخطوة، ومخاطر الزيادة السكانية المفرطة والخطيرة، وهناك من يطالبون بإجراءات أكثر صرامة، مثلما اتبعت بلدان أخرى، لكن الاعتماد على القناعة والوعى أفضل بكثير ويحترم عقلية الإنسان وإدراكه، وهنا لابد أن تتجلى أهمية دور القيادات الشعبية وعلماء الدين فى الأزهر ووزارة الأوقاف، وكذلك دور المعلمين وأساتذة الجامعات والإعلاميين والمثقفين وغيرهم من الفئات المؤثرة فى الوعي، حتى نستطيع أن نواجه تلك المشكلة والحد من تداعياتها الخطيرة على الفرد والأسرة والمجتمع والأجيال القادمة.